Friday, 1 April 2011

رسائل ..... نزار قبانى


(92)
أشعر بالحاجة إلى النطق باسمك هذا اليوم..
لم أزرعه شمساً في رأس الورقة.. لم أتدفّأ به..
واليوم، وتشرين يهاجمني ويحاصر نوافذي، أشعر بحاجة إلى النطق به. بحاجة إلى أن أوقد ناراً صغيرة.. بحاجة إلى غطاء.. ومعطف.. وإليك.. يا غطائي المنسوج من زهر البرتقال، وطرابين الزعتر البريّ..
لم أعد قادراً على حبس اسمكِ في حلقي. لم أعد قادراً على حبسك في داخلي مدةً أطول. ماذا تفعل الوردةُ بعطرها؟
أين تذهب الحقول بسنابلها، والطاووس بذيله، والقنديل بزيته؟
أين أذهب بكِ؟ أين أُخفيكِ؟
والناس يرونك في إشارات يدي، في نبرة صوتي في إيقاع خطواتي..
من رائحة ثيابي يعرف الناس أنكِ حبيبتي، من رائحة جلدي يعرف الناس أنكِ كنتِ معي، من خَدَر ذراعي يعرف الناس أنكِ كنتِ نائمة عليها..
لن أستطيع إخفاءك بعد اليوم..
فمن أناقة خطي يعرف الناس أنني أكتب إليكِ..
من فرحة خطاي يعرفون أنني ذاهبٌ إلى موعدك..
من كثافة العشب على فمي يعرفون أني قبّلتكِ..
لا يمكننا.. لا يمكننا .. أن نستمر في ارتداء الملابس التنكريَّة.. بعد الآن..
فالدروبُ التي مشينا عليها لا يمكن أن تسكت..
والعصافيرُ المبلّلة التي وقفت على أكتافنا سوف تخبر العصافيرَ الأخرى..
كيف تريدينني أن أمحو أخبارنا من ذاكرة العصافير..
كيف يمكنني أن أُقنع العصافير.. أن لا تنشر مذكّراتها؟
(93)
هذه رسالة غير عاديّة، عن يوم غير عاديّ.
قليلة جداً هي الأيّام غير العاديّة في حياة الإنسان. الأيّام التي يخرج بها من قفص بشريّته .. ليصبح عصفوراً.
يوم.. أو نصف يوم.. ربّما.. في حياة الانسان كلّها، يخرج فيه من السيلول الضيق، ليمارس حرّيته، ليقول ما يشاء.. ويحرّك يديه كما يشاء، ويحبّ من يشاء في الوقت الذي يشاء..
فإذا كتبتُ لكِ عن هذا اليوم غير العاديّ، فلأنني أشعر أنني تحرّرت في هذا اليوم من دَبَقي ومن صمغي.. وخرجتُ من صندوق النفاق الإجتماعي، ومن مغارة التاريخ، لأمارس حريتي كما يمارسها أيّ عصفور شارد في البريّة.
*
البحر كتابٌ أزرقُ الغلاف.. أزرقُ الصفحات..
وأنتِ بثوب الإستحمام، تقرأين تحت الشمس.
الحشرات الصغيرة تزحف على جسدك الزنبقيّ لتشرب الضوء..
ظَهْرُكِ مكشوف.. وقدماكِ تلعبان بحرية وطفولة على العشب النابت أمام باب بيتنا البحريّ..
وأخيراً.. أصبح لنا بابٌ .. ومفتاحٌ.. ومنزلٌ بحريّ نلتجيء إليه..
ربّما لا تدركين معنى أن يكون للإنسان بيت، ومفتاح، وامرأة يحبّها..
ربّما لا تدركين أنني تلميذٌ هاربٌ من جميع مدارس الحبّ ومعلّميها..
هارب من ممارسة الحبّ بالإكراه، وممارسة الشوق بالإكراه، وممارسة الجنس بالإكراه..
وللمرة الأولى منذ عشرين سنة، أدخل معك منزلنا البحريّ فلا أشعر أن له سقفاً .. وجدراناً..
للمرة الأولى أدفن وجهي في صدر امرأةٍ أُحبُّها.. وأتمنى أن لا أستيقظ..
للمرة الأولى أقيم حواراً طويلاً مع جسد امرأةٍ أُحبّها.. ولا أفكر في الحصول على إجازة..
للمرة الأولى منذ عصور، أفكّر بتجديد إقامتي معك..
وحين يفكر رجل في تمديد إقامته مع امرأة .. فهذا يعني أنه دخل مرحلة الشعر.. أو مرحلة الهيستريا..
*
البحر شريطٌ من الحرير الأزرق على رأس تلميذة..
ونهداكِ يقفزان من الماء.. كسمكتين متوحّشتين..
وأنا أنكش في الرمل الساخن بحثاً عن لؤلؤة تشبه استدارة نهدَيْكِ..
نخلتُ كلَّ ذرّات الرمل، وفتحتُ مئات الأصداف، ولم أعثر على لؤلؤة بملاستهما..
إنتهى رملُ البحر كلُّه.. وانتهت قواقعي كلُّها.. ورجعتُ إلى صدرك نادماً ومعتذراً.. كطالبٍ راسبٍ في امتحاناته..
نتخبّط في الماء.. كطائرين بحرييّن لا وطن لهما.
قطراتُ الماء تكرج على الجسدين المتشابكينْ..
تتدحرج.. تشهق.. تغنّي.. ترقص.. تصرخ.. لا تعرف أيَّ الجسدَيْن تبلِّل..
قطراتُ الماء دوَّختها جغرافيةُ الجسدينْ المتداخلين..
لم تعد تعرف أين تسقط.. على أيّ أرض تتزحلق..
ضاعت جنسيّةُ الرخام. لم يعد للعنق اسم.. ولا للذراع اسم.. ولا للخصر اسم.. ضاعت أسماء الأسماء. الرخام كلّه معجون ببعضه.. براري الثلج كلها تشتعل.. وأنا.. وأنتِ.. مزروعان في زرقة الماء.. كسيفيْنِ من الذَهَب..
*
الحبُّ يجرفنا كصَدَفتيْن صغيرتيْن..
وأنا أتمسّك بشعرك بشراسة إنسان يغرق..
لم يكن بإمكاني أن أكون أكثر تحضّراً، فحين تلتصقين بي كسمكة زرقاء.. أكونُ سخيفاً وغبيّاً إذا لم أجرّك معي إلى الهاوية.. لنستقرّ في قعر البحر سفينتيْن لا يعرف أحدٌ مكانَهما...
*
إنتهى يومُنا البحريّ..
ذهبتِ أنتِ . وظلّتْ رغوةُ البحر تزحف على جسدي..
ظلّت الشمس جرحاً من الياقوت على جبيني.
حاولتُ أن أستعيدَكِ ، وأستعيدَ البحر..
نجحتُ في استرداد البحر.. ولم أنجح في استردادك.. فما يأخذه البحر لا يردّه.
حاولتُ أن أركِّبَ يومنا البحريّ تركيباً ذهنيّاً..
وألصق عشرات التفاصيل الصغيرة ببعضها.. كقطع الفسيفساء.
تذكّرتُ كلَّ شيء.
قبَّعتكِ البيضاء، ونظّارة الشمس، وكتابك الفرنسيّ المطمور بالرمل.. حتى النملة الخضراء، التي كانت تتسلّق على ركبتك الشمعيّة.. لم أنْسَها.. حتى قطرات العَرَق التي كانت تتزحلق كحبّات اللؤلؤ.. على رقبتك لم أنسَها..
حتى قَدَمُكِ الحافية التي كانت تتقلّب على الرمل، كعصفورة عطشى.. لم أنْسَها..
*
إنتهى يومُنا البحريّ..
لا زال ثوبُ استحمامك البرتقاليّ، مشتعلاً كشجرة الكرز في مخيّلتي..
لا زال الماء المتساقط من شعرك.. يبلّل دفاتري..
كلُّ سطر أكتبه .. يغرق في الماء.
كلُّ قصيدة أكتبها.. تغرق في الماء..
واتركي الشمس.. تُشرق ثانيةً، على جَسَدي
*
إنتهى يومُنا البحريّ..
وكتبَ البحرُ في دفتر مذكّراته:
"كانا رجلاً وامرأة..
وكنتُ بحراً حقيقياً.."

No comments:

Post a Comment