Thursday, 21 April 2011

ذكاء المشاعر

ذكاء المشاعر
كتبت : ابتهال سالم

تري‏..‏ ماذا تفعل عندك الآن؟ هل تراني؟ أتشعر بمساحة الفقد التي تركتها منذ رحيلك؟ ماذا فعلت بي؟ مازلت أري عينيك تضحكان وانت تقف فاردا ذراعيك لاستقبالي‏:‏ ـ كنت أفكر فيك قبل مجيئك بخمس ثوان وكأنما أستدعيك
‏أضم كفيك بقوة وأجلس مرددة‏:‏
ـ إنك فعلا تستدعيني‏,‏ فقد حلمت بك ليلة أمس وكأنما تناديني‏.‏
يروح ويجيء في المكان الضيق الذي اضطر للوجود فيه بعد أن تزوج وأنجب بنتا وولدا‏..‏ مكتبة صغيرة اضطر للعمل فيها بعد أن شاخت سنينه‏.‏
لكن روحه الشابة‏,‏ كانت دوما مغادرة‏..‏ هناك حيث البحر البعيد والبلاد الغريبة‏.‏
ركب البحر منذ صغره وطاف وجال وأبحر شرقا وغربا فوق أسطح المراكب وعاد كما رحل حافيا‏,‏ خالي الوفاض إلا من متعة وخبرة وخيال‏.‏
بحار هو‏..‏ يبحر داخل وجدان البشر‏,‏ يعرفهم من عيونهم‏,‏ يمس قلوبهم‏,‏ فتفيض أرواحهم متآلفة معه منذ أول لقاء‏.‏
بحار هو‏..‏ في المعرفة‏,‏ أبحر داخل الكتب الأدبية والتاريخية والفلسفية والتصوفية والسينما والمسرح والشعر و‏..‏كان ببساطة يعشق البحر والمعرفة‏.‏


هكذا عرفته وهكذا تآلفت معه سريعا ولم نفترق‏..‏ من الجائز أن تبعدنا المسافات‏,‏ لكن أرواحنا تظل قريبة دافئة‏,‏ فرحة باللقاء بعد غياب‏.‏
روي البحر بذرة الإبداع لديه‏,‏ فأضحي فنانا‏,‏ يكتب أشعارا ويصمم بأصابعه الرفيعة‏,‏
الدقيقة‏,‏ تصميمات ورقية وجلدية وعرائس وعلب هدايا وحقائب يد و‏..‏ وغيره‏..‏ وبيديه المعروفتين يضخ الحركة فيها‏,‏ فتبدو وكأنها كائنات حية متدفقة بالحياة‏.‏
كنت أزوره في مكتبته المحندقة الصغيرة‏,‏ أنتقي بعض التصميمات‏,‏ وأختار صورا بديعة‏,‏ وكان في كل مرة يهديني علبة مزخرفة من صنع يديه ولايتقبل ثمنها‏.‏
اختار لي مرة‏,‏ أراجوزا يرتدي رداء السوبر مان وقال لي مبتسما‏:‏
ـ إنه أراجوز هذه الأيام
هززت رأسي مرددة‏:‏
ـ كلنا ياعزيزي‏,‏ أضحينا أراجوزات في زمن السوبر مان‏.‏
انتقيت في آخر زيارة له‏,‏ عروسة علي شكل ساحرة‏,‏ عجوز ماكرة‏,‏ أنفها طويل وعيناها كثقبي إبرتين وشعرها منكوش وتمسك مكنسة طويلة تصل الي قمة قبعتها المدببة فوق رأسها‏.‏
يسألني ضاحكا‏:‏
ـ لديك عرائس متنوعة‏,‏ أجمل من تلك القبيحة
وأقول له‏:‏
ـ إن في القبح جمالا أحيانا‏,‏ ثم انني أحتاجها لأنها تشبه شخصية في روايتي الجديدة‏,‏ شخصية ساحرة عجوز يصيبها مرض النسيان فتخطيء في تركيباتها السحرية وتسبب مصائب‏.‏
يضرب كفا بكف صائحا‏:‏
ـ مجنونة‏!‏
أدق بقدمي علي الأرض‏:‏
ـ أنت المجنون‏!!‏
يهز رأسه ضاحكا‏:‏
ـ طبعا‏..‏ أنا لا أصاحب إلا المجانين أمثالي
أهدأ‏..‏ فأقول‏:‏
ـ أتصدق‏..‏ حين أقابل شخصا يدعي أنه عاقل‏,‏ أعرف أنه بدون شك مجنون‏..‏ يضحك عاليا‏..‏ يقف فجأة‏:‏
ـ تشربي شاي؟
وقبل أن أجيب‏,‏ يأخذني من ذراعي علي أقرب مقهي‏,‏ ليطلب اتنين شاي كشري‏,‏ سكر بره وواحد معسل والشيشة التفاح التي أحبها‏.‏
وهكذا‏..‏ نجلس سويا‏..‏ نحتسي الشاي ونثرثر مع حلقات الدخان‏..‏ كان شرها في تدخين السجائر العادية والمحشوة أحيانا ولايقبل نصائح أو مواعظ فكنت أتركه بحريته واكتفي بمجالسته‏..‏ نضحك‏..‏ نبكي‏..‏ ننم في خلق الله‏..‏ نقطع فروة فلان‏,‏ ونبارك مزايا فلان وندردش في آخر كتب قرأناها أو فيلم شاهدناه‏..‏ وتدور حلقات الدخان مع دوائر الكلام والزحام وسارينات العربات وأبواق البواخر الراحلة الي البلاد الغريبة ووميض الفنار الذي يأتينا من بعيد‏.‏
وظللنا نتقابل ونفترق‏,‏ نتقابل ونفترق الي أن طال الغياب لسنوات‏..‏ عدت بعدها لأجده كورقة هشة جالسا في ركن المكتبة فوق كرسي بلا ظهر وبين يديه كتاب مفتوح‏.‏
عرفني من خطوتي‏,‏ رفع رأسه‏:‏
ـ حمدا لله علي السلامة‏,‏ أتيت في الوقت المناسب‏,‏ كنت أحتاجك
وكأنما تبدل‏..‏ برزت عظام وجهه‏,‏ سقط شعره وتاهت ابتسامته في سحنته الضعيفة الغريبة‏.‏
اقتربت منه متسائلة‏:‏
ـ مابك؟
وبنصف ابتسامة رد‏:‏
ـ لاشيء‏..‏ متعب فقط‏..‏ وما هي إلا أيام وأعود لحالتي تأملته صائحة‏:‏
ـ لكنك تبدو ضعيفا للغاية وواهنا
هز رأسه‏:‏
ـ هكذا أنا‏..‏ حينما أخرج من جلسة الكيماوي وكأنما لدغتني حية‏,‏ فسري سمها في جسدي وشلني عن الحركة
صرخت‏:‏
ـ جلسة كيماوي‏..‏ أهي العبارة هكذا‏...!‏ ولماذا لم تبلغني؟ ليس لديك عذر‏...‏ عندك رقم تليفوني ولم تتصل بي‏...‏ كيف جرؤت علي إخفاء الأمر عني‏...‏ لم يحدث أن أخفينا شيئا عن بعضنا من قبل
تنهد تنهيدة متأسية‏:‏
ـ لم أشأ أن أزعجك
درت حول نفسي‏,‏ أخذت نفسا طويلا حتي أتماسك‏,‏ أسندت ظهري علي الحائط البارد‏,‏ شاردة‏:‏
آه‏...‏ لازلت أشم رائحة الكيماوي والمخدر والتعقيمات والملاءات البيضاء‏,‏ وأري لهاث الأطباء والممرضين والوجوه النحيلة للمرضي والشعور المتساقطة والعيون الحزينة وثقل الخوف الذي يملأ المكان‏.‏
لما طال الصمت‏..‏ اقتربت منه‏,‏ ربت علي كتفه بحنو‏,‏ محاولة التخفيف عنه‏,‏ لونت صوتي بمرح مصطنع وقلت ساخرة من الموقف برمته‏:‏
ـ إياك أن تفعلها وتموت ياصاحبي‏,‏ لن أغفر لك أبدا
ضحك كعادته‏..‏ أمسك يدي الباردة‏,‏ أجلسني بجواره‏..‏ غير الموضوع كعادته‏,‏ فهو لايطيق الألم أو الحديث عنه‏.‏
قدم لي كتابا مفتوحا بين يديه قائلا‏:‏
ـ تعرفي‏...‏ أنا أقرأ كتابا اسمه ذكاء المشاعر‏.‏ رفعت حاجبي مندهشة‏,‏ وقبل أن أتفوه بكلمة‏,‏ قال‏:‏
ـ ذكاء القلب‏..‏ كيف تكون المشاعر دليلك إلي الحب والجمال‏,‏ كيف تثقين في إحساسك‏,‏ كيف توجهين مشاعرك في الاتجاه الصائب‏.‏
هذا ما قرأته من سطور حتي الآن‏..‏
أغلق الكتاب‏,‏ وضعه فوق رف قريب‏,‏ قائلا‏:‏
ـ سأعيرك إياه بعد انتهائي من قراءته‏,‏ سوف يفيدك في التعرف علي عالم المشاعر‏.‏ داعبته‏:‏
ـ مالك انت والمشاعر‏,‏ ياراجل لقد تخطينا الخمسين وأضحت ابنتك طولك‏,‏ وابنك أطول منك‏.‏
ضحك‏:‏
ـ المشاعر لاعلاقة لها بالسن‏.‏
هززت رأسي مرددة‏:‏
ـ قصر ديل‏...‏ معقولة اني أحب واتحب في سني هذا‏..‏ وأصبح ابني رجلا يملأ هدومه ومقدما علي زواج‏.‏
وبعمق البحر ومداه‏,‏ مست كلماته قلبي‏,‏ حين همس لي قائلا‏:‏
ـ إذا كنت أنا أحبك‏..‏
ارتبكت‏...‏ رددت متجنبة النظر إليه‏:‏
ـ أعرف أنك تحبني‏,‏ أتريد أن تكون بيننا تلك العشرة الطويلة ولاتحبني‏!‏
أشعل سيجارة‏..‏ أخذ نفسا قويا‏,‏ نفخ دخانا في وجهي قائلا‏:‏
ـ اسمعي الكلام‏...‏ لاتتعبيني‏,‏ لما أقول إني أحبك‏...‏ فهذا يعني اني أحبك‏..‏ تنهدت مغتاظة‏:‏
ـ انت تقول كلاما ساخرا كعادتك‏,‏ أتسخر مني؟ أم أنك تريد أن ترفع روحي المعنوية ليس أكثر‏..‏ سعل سعالا متقطعا‏,‏ وبلهجة حاسمة ألجمتني‏,‏ قال‏:‏
ـ قلت لك اني أحبك‏..‏ أحببتك منذ زمن مضي ولم أجرؤ علي المكاشفة‏,‏ ورحل كل منا بعيدا عن الآخر‏,‏ لكن حنيني إليك كان يشدني ويلقيني عند مرساك كلما سنحت الفرصة‏..‏ لا تسأليني كيف حدث ذلك ولماذا؟ فأنا نفسي لا أدري‏!‏
وقفت فجأة‏..‏ صائحة بغضب‏:‏
ـ أتبوح لي بحبك الآن وأنت علي وشك‏..‏
نظرت في عينيه‏..‏ فتوقفت عن الكلام‏.‏
أمسك يدي‏...‏ أجلسني‏...‏ ربت علي كتفي بحنو‏:‏
ـ لاتخافي‏...‏ لن أموت‏...‏ فأنا أحب الحياة مثلما أحب البحر وعينيك‏..‏ أعدك‏..‏ لن أموت‏..‏
والآن‏...‏ أضع سماعة الهاتف‏..‏ مصدومة بخبر موته‏..‏ غير مصدقة أني لن أراه‏..‏ لن أسمع صوته‏..‏ لن أشاهد ضحكة عينيه أو أنصت إلي حكاويه الساخرة‏,‏ أخلف وعده ورحل‏..‏ وتركني‏..‏ موجوعة بفقده ومغتاظة أسأله‏:‏
ـ تري ماذا تفعل عندك الآن؟ هل تراني؟
‏----------------------------‏
صدر لها ثلاث مجموعات قصصية‏:‏ هي النورس ودنيا صغيرة و نخب اكتمال القمر وثلاث روايات هي نوافذ زرقاء التي فازت بالمركز الثالث في مسابقة أدب الحرب‏1998‏ كما صدر لها صندوق صغير في القلب والسماء لاتمطر أحبة كما قامت بكتابة وترجمت سبع قصص للأطفال وترجمت بعض أعمالها إلي عدة لغات منها الانجليزية والفرنسية والألمانية والايطالبة وحصلت علي منحة كروائية للمحاضرة في جامعة واشنطن عام‏2005‏ وحصلت علي منحة كروائية في منتجع لافيني بسويسرا عام‏2005.‏

No comments:

Post a Comment