Friday, 1 April 2011

سيد العربى

سيد العربى
------
كل هذه المحن الصماء فى نصف نهار
---------------

بينما كنا صغارا نمرح حول اشجار الصفصاف والكافور والكازورينا والتوت ودقن الباشا
نصطاد السمك ونلعب الكرة الشراب ونجمع محصول القمح والقصب والقثاء والبطاطس والحلبة
ونجرى وراء الفراشات -التى ماعادت تأتى -ونتربص للطيور المهاجرة فى لهو ومرح
ونعبث باعشاش الطيور المقيمة وفى فصل الصيف عندما ينحسر النهر عن اراضى طرح البحر
كانت تشرق الشمس وتغرب ونحن فى هذا المرح وحتى ساعات العمل كانت لهوا متصلا وتعبا لاتمازجه الهموم

وفى ايام السدة الشتوية حيث تأتى الكراكات لتطهير القنوات والترع ونسير ورائها نتعجب من حجمها العملاق
وقدرتها على العمل ونحسب انها اكبر آلة فى الوجود...ونؤمن بثقة ان السيد الرئيس -حفظه الله- يعرف يسوق هذه الكراكة بصباع واحدة
ويقدر يصنع واحدة زيها مسافة ماتشرب كباية الشاى .. وقد نختلف على زمن اقل من ذلك

و فى اماسى الصيف حيث كانت الالعاب والاغنيات على ضوء القمر تمنح شيئا من البهجة فى النفوس
لاتذهب بها الايام مهما قست وحتى ذلك الابحار فى الجهل مع العزلة عن كل الوان وصنوف التقدم

عزلة وجهل فرضتها السياسة وقتها لكنها لاشك أتت بشئ ماكان يقصده السياسيون يوم ان غيبونا فى خرافات تثير من الضحك اليوم
ما وسع القلب ان يضحك كلما استعاد حكايات ابو زيد الهلالى والعفاريت والنداهة وام الشعور وسيدنا قطمير ومارد الجبل وجنيات البحر
وماكينة الطحين التى تعمل بدم الاطفال وامنا الغولة التى يجب ان يصاحبها ذلك اللقب حتى لا تأكلنا ومارد الجسر الوسطانى الذى
يظهر فى عز الضهر الاحمر عند الوحدة الصحية وياخد اللى فيه النصيب
وينزل تحت الارض (لاحظ انه مارد شحات بحكاية اللى فيه النصيب دى ) ء
والملك الذى كان يأكل خروفين على العشاء والزعيم الخالد الذى سيلقى اسرائيل ومن ورائها فى البحر
المهم ان الايام كانت حلوة فى النفس بهذا الشكل مادام العالم بعيدا عنا ونحن عنه فى عزله ....فى تلك الايام تعرفت الى سيد العربى اول مرة

شاب فى منتصف العشرينات يأتى مع اهله كل عام من العاصمة ليزور اقاربه ويقضى فى قريتنا بضع ايام ويعود
كان شابا ضحوكا ولوعا بالقفشات والمرح والشهامة وكان عند مغادرة البلدة يمضى حزينا لأنه لايحب ان يفارق هذه المراتع وتلك الحقول
والنفوس الصافية ونوبات الكرم والحفاوة التى نتلقاهم بها... ويرحلون فننسى امرهم وننصرف عنهم الى ماكنا فيه من اعمال وعادات

كان سيد العربى يعمل اسطى فى ورشة احذية من تلك الورش التى تنتشر فى ضواحى الجمالية
وكان ماهرا محبوبا مرحا خفيفا يضحك للحياة وكان له خطيبة يحبها كثيرا و يحتفظ بصورتها فى حافظته
ويتعارك من اجل الزواج منها ليل نهار والكل يضحك على زغفته ع الجواز ...بكرة تشبع بيها ياخويا
فيصرخ ويقول ليه بكره ليه مايكونش النهاردة ويضحكون على سيد وطيشه وتعجل الشباب فيه

**********************

ذات صيف سافر جدى متعجلا وعرفنا فى اليوم التالى ماحدث للفتى
كان سيد يعمل فى الورشة عندما رأى خطيبته عائدة تتأبط شابا فى وضع غرامى مثير
وامها تسبقهما بخطوات ....ذهب غاضبا ليفهم مايدور فاذا بالثلاثة ينهالون عليه شتما وسباباواخرج الشاب الذى معهم سكينا
معركة ونقاش حاد اعقبه ان فهم سيد ان كل شئ قد انتهى وان هذا التهزئ كان آخر عهده بالحب ونهاية الحلم الجميل
فما كان منه الا ان توجه الى الورشة وسحب مقطع الجلد وانهال فيهم طعنا بلا وعى ولا تفكير
وخلال دقائق كانت حماته والشخص مذبوحين فى الطريق العام والخطيبة بين الحياة والموت
تم الحكم على سيد بالمؤبد و اصبح نزيلا فى سجن ابو زعبل يقضى مدة العقوبة
ومع الايام تغيرت البلاد والعباد ولم تعد الكراكات تظهر وانشغل الجميع فى امور الدنيا وضاع سيد فى طى النسيان

***********************

فى يوم من أيام عيد الاضحى كنت قد توجهت عائدا لقضاء الاجازة فى بلدتى كالمعتاد
كان رجلا غريبا يقف على الباب... رحبت به و دعوته للدخول ولكنه وقف يحملق فى بشدة وقال لى بعد صمت انت مين؟

وعرفت بعد ذلك ان الواقف امامى هو سيد وانه خرج من السجن منذ سنوات ولم يشأ ان يضايق احدا فعاش حياته بعيدا عن الجميع
وانه جاء فى هذا العيد لايريد صدقة ولا احسان وانه والحمد لله يدبر حاله

وانه قد جاء يرجو ان نحدد له مقبرة فى البلد لأنه لايحب ان يدفن بعيدا
وخرجنا من هذا الجو بالحديث الذى يخوض فيه الناس وهو يتعجب من اننى قد كبرت وكأننى كان لابد ان ابقى صغيرا كما تقابلنا آخر مرة
كان يضحك ويحكى حكايات طريفة ويستعيد الذكريات والتعب الذى لاقاه بعد الخروج من السجن وفهمت انه لابد ان يرجع اليوم وانه لا يرغب بالمبيت
انهينا حوار المقبرة ...وقلت له ياعم المقابر على قفا من يشيل ..البلد كلها بقت قبر ياعم سيد
قال لى انا عاوز اروح غيط الساحل ...هى لسه بتاعتكم ولا حد اشتراها ؟
قلت له اتباعت بس موش لحد غريب خدوها ولاد عمك وحيد يعنى بتاعتنا برضه
ومازحته قائلا انت لسه فاكر غيط الساحل يا عم سيد دانا نسيتها ياراجل ؟ تصدق ان المياه الجوفية بوظتها ...بقت ارض الجبل احسن منها
مشينا تجاه النهر والحديث منقطع واخيرا وصلنا الى غاية الرجل ومنتهى احلامه
طلب منى متوسلا ان اتركه وحيدا ...رفضت ...ولكنى احسست برغبته فى ذلك فتركته ومضيت

مشيت قليلا ومررت على الكوبرى الجديد (اسمه كده لكن هو كان جديد ايام الملك ) وجدت ان الكوبرى قد اكله الصدأ وتهالكت البغلة التى تحمله وعلت عنه الجسور
وان المنازل قد زحفت تجاه البحر وشعرت بالشجن وداهمتنى الذكريات .. وفجأة تذكرت انى لم اخبره اننى لن لن اتناول الغداء حتى يعود ونأكل معا ....عدت لأخبره بذلك
وجدته يجلس متربعا تحت النخلة والدموع تملأ وجهه وهو ينظر الى بعيد
لم اشأ ان اضايقه فمضيت وتركته غارقا فى الدموع وكانت آخر مرة ارى فيها سيد العربى

**************************

منذ ثلاثة ايام مات ... مات سيد العربى ولم يتزوج ولم ينجب ولم يترك احدا يبكى عليه...الله يرحمك ياسيد
.....................................
محرم صلاح الدين
مصر
Wednesday, 17 March 2010 at 06:05 







1 comment:

  1. كان ليا صديق كبير فى السن فى عمرى والدى كدة
    ومرة كان الحزن مسيطر عليا بصورة غير طبيعية
    على فقدان الحب وحبيبتى وسنين عمر طويلة
    وفى الاخر قالى جملة مفيدة
    فى ناس بتعيش طول عمرها تدور على حد يحبها
    ومتلقيش
    فاحمد ربنا ان فى يوم من الايام عيشت الاحساس دة حتى لو مكملش للنهاية
    بس يكفيك انك حبيت واتحبيت وضحكت وبكيت
    وبفيت انسان
    حتى لو لفترة بسيطة من الزمن ..... !
    فجاة
    هدى البركان اللى كان جوايا
    وحمدت ربنا
    انى مرة عشت
    ومرة مت
    ومرة دقت حلاوة الحب

    وعجبى

    ReplyDelete