كتاباتٌ على جُدرَانِ المَنْفَى
نزار قبانى
نزار قبانى
1
| |
يا سيِّدتي :
| |
كيفَ أًصوِّرُ هذا العصرَ اللامَعْقُولَ ،
| |
نسيتُ الوَصْفَا .
| |
كنتُ أَظنُّ الكِلْمَةَ بيتي
| |
فإذا بِهِمُ .. سرقُوا البابَ ..
| |
وسرقوا السَقْفَا ..
| |
سَرَقُوا الوَرَقَ الأبيضَ منَّا ،
| |
سَرَقُوا الحَرْفَا .
| |
ماذا نأكُلُ ؟
| |
ماذا نشربُ ؟
| |
كيفَ نُعبِّرُ عن أَنْفُسِنَا ؟
| |
إِنَّا نأْكُلُ ـ يا سيِّدتي ـ قَمْعاً
| |
إِنَّا نَشْرَبُ ـ يا سيِّدتي ـ خَوْفَا
| |
أين سنذهَبُ يا سيِّدتي ؟
| |
إِنَّ عبورَ الشارعِ خَطَرٌ .
| |
إِنَّ ركوبَ المِصْعَد خَطَرٌ .
| |
والسيَّارةُ خَطَرٌ .
| |
والدَّراجَةُ خَطَرٌ .
| |
والطَّيارةُ خَطَرٌ .
| |
ليس هناكَ مكانٌ
| |
يجلسُ فيهِ الكاتِبُ ،
| |
ليسَ هنالكَ مَقْهَى ..
| |
نِصْفُ الجملة في الجبَّانةِ ..
| |
نِصْفُ الفِكْرة في المُسْتَشْفَى ...
| |
2
| |
يا سيِّدتي :
| |
ماذا يبقى من إِنْجِيلِ الثَوْرَةِ ،
| |
حينَ تُقرِّرُ قَتْلَ مُغَنِّيها ؟
| |
ماذا يبقى مِنْ كَلِماتِ الثَورَةِ ،
| |
حينَ ستَمْضَغُ أكبادَ بَنِيها ؟
| |
ماذَا يَبْقَى ؟
| |
حينَ تخافُ الدولةُ من رائحةِ الوردِ ،
| |
فَتُحْرقُ كلَّ مَرَاعِيها ..
| |
ماذا يَبْقَى من فَلْسَفَةِ الثَوْرَةِ ،
| |
حين تخافُ طلوعَ الشَمْسِ ،
| |
وتَنْتُفُ ريشَ كَنَاريها ؟.
| |
مَاذا يَبْقَى ؟
| |
مَاذا يَبْقَى ؟
| |
مَاذَا يَبْقى ؟
| |
حينَ تبولُ الثورةُ فوقَ كَلامِ نَبِيِّيها...
| |
3
| |
يا سيِّدتي :
| |
أطلبُ عَفْوَكِ ..
| |
إِنْ لم أكتبْ في عَيْنَيْكِ قصيدةَ شِعْرٍ
| |
إِنَّ العازِفَ نَسِيَ العَزْفَا .
| |
كيفَ أُحِبّكِ ، يا سيِّدتي ؟
| |
إِنَّ مباحثَ أَمْنِ الدولةِ ،
| |
تُلْقي القَبْضَ على الأَحلامِ ..
| |
وتُرْسِلُ أهلَ العِشْقِ إلى المَنْفَى ..
| |
4
| |
يا سيِّدتي .. يا سيِّدتي
| |
كنتُ قديماً أَقرأُ جِسْمَكِ
| |
سَطْراً سَطْراً ..
| |
حَرْفاً حرْفا ..
| |
كنتُ قديماً أُشْعِلُ في نِهْدَيكِ النارَ ..
| |
وأزرعُ بينهما سَيْفَا ..
| |
أَمَّا اليومَ .. فأَصْبَحَ شَكْلُ النَهْدِ ،
| |
يُشَابِهُ أسوارَ المَنْفَى ..
| |
يا سيِّدتي . يا لُؤلُؤتي . يا واحِدَتي .
| |
كيفَ أُمارسُ فِعْلَ الحُبِّ ..
| |
وطَعْمُ الجِنْسِ لهُ طَعْمُ المَنْفَى ؟؟
| |
5
| |
يا سيِّدتي :
| |
كيفَ أُقاومُ هذا العَصْرَ المَمْلُوكيَّ ،
| |
وهذا الحِقْدَ النيرُونيَّ ،
| |
وهذا القَتْلَ المَجَّانِيَّ ،
| |
وهذا العُنْفَا ؟
| |
كيفَ سأُوقفُ هذا المدَّ اللاقوميَّ ،
| |
وهذا الفكرَ التجزيئيَّ ،
| |
وهذا المَطَرَ الكبريتيَّ ،
| |
وهذا النَزفَا ؟
| |
كيف نُعبِّرُ عن مأزِقِنَا ؟
| |
كيف نُعبِّرُ عمَّا يُكْسَرُ في داخِلِنَا ؟
| |
كيفَ سنتلو آيَ الذِكْرِ على جُثَّتِنا ؟
| |
إِنَّ مباحثَ أَمْنِ الدولةِ تطلبُ منَّا
| |
أَنْ لا نَضْحَكَ ..
| |
أَنْ لا نَبكيَ ..
| |
أَنْ لا ننطُقَ ..
| |
أَنْ لا نَعْشَقَ ..
| |
أَنْ لا نلمِسَ كفَّ امرَأَةٍ ..
| |
أَنْ لا نُنْجِبَ ولداً ..
| |
أَنْ لا نُرْسِلَ أَيَّ خِطابٍ
| |
أَنْ لا نَقْرَأَ أَيَّ كتابٍ
| |
إِلا عنْ أَحْوَالِ الطَقْسِ ، وإِلا عَنْ أَسرَارِ الطَبْخِ
| |
فتلكَ قَوَانينُ المَنْفَى ...
| |
6
| |
يا سيِّدتي :
| |
ماذا أفعلُ لو جاءَتْني أُمِّي في الأَحْلامْ ؟
| |
مَاذا أَفْعلُ لو ناداني فُلُّ دِمشْقَ ..
| |
وعاتَبَني تُفَّاحُ الشَامْ ؟
| |
ماذا أَفْعَلُ لو عَاوَدَني طَيْفُ أَبي ؟
| |
فالتجأَ القَلْبُ إِلى عَيْنَيْهِ الزَرْقَاوَيْنِ ..
| |
كسِرْب حَمَامْ ..
| |
يا سيِّدتي :
| |
كيفَ أقولُكِ شِعْراً ؟
| |
كيفَ أقولُكِ نَثْراً ؟
| |
كيف أقولُكِ ، يا سيِّدتي ، دُونَ كلامْ ؟
| |
7
| |
يا سيِّدتي :
| |
كيفَ أُبَشِّرُ بالحُريَّة ..
| |
حينَ الشمسُ تواجهُ حكماً بالإِعدَامْ ؟
| |
كيفَ سآكُلُ من غير طَعَامْ ؟
| |
يا سيِّدتي :
| |
إِنِّي رَجُلٌ لم يَتَخَرَّجُ من بَارَات السُلْطَةِ ،
| |
في أَحَدِ الأَيَّامْ ...
| |
أَو أشْغلتُ وظيفةَ قِرْدٍ ..
| |
بينَ قُرُودِ وزاراتِ الإِعلامْ !!
| |
يا سيِّدتي :
| |
إِنِّي رجلٌ لا أَتَوارَى خَلْفَ حُرُوفي
| |
أو أتخبَّأُ تحتَ عَبَاءةِ أيّ إِمَامْ ..
| |
يا سيِّدتي : لا تَهْتَمِّي .
| |
فأنا أعرفُ كيفَ أكونُ كبيراً ..
| |
في عَصْر الأَقزامْ ...
| |
*
| |
8
| |
يا سيِّدتي : لا تَهتَمّي
| |
سوفَ أَظلُّ أُحِبُّكِ ..
| |
حتَّى أَفْتَحَ نَفَقَاً تحتَ البَحرِ ..
| |
وأثقبَ حيطانَ المَنْفى .
| |
لا تَهْتَمِّي ..
| |
لا تَهْتَمِّي ..
| |
لا تَهْتَمِّي ..
| |
إِنَّ المَنْفَى في غاباتِ الكُحْلِ الأَسْوَدِ
| |
ليسَ بمنْفَى ...
|
No comments:
Post a Comment