Wednesday, 24 July 2013

مقتطفات من : معك .. سوزان طه حسين



مقتطفات من : معك .. سوزان طه حسين
 ترجمة، تحقيق: بدر الدين عرودكي

الناشر : دار المعارف
1979
1982

معك
-1
فى 9 يوليو1975، أى بعد مضى ثمانية وخمسين عاما على اليوم الذى وحدنا فيه حياتنا، وبعد مضى ما يقرب من العامين على رحيلك عنى، سأحاول أن أتحدث عنك مادام قد طلب إلى ذلك.. أريد بكل بساطة أن أخلد للذكرى مستعيدة ذلك الحنان الهائل الذى لا يعوض؛ ولا شك أنك تدرك ذلك أنت الذى كتبت لى ذات يوم "لسنا معتادين على أن يتألم الواحد منا بمعزل عن الآخر".
24يونية1974..يقلقنى عجزى عن إعادتك إلى قربى ويقنطنى. أعرف أنك تحيا، ولكن أين؟ وكيف؟، وأعرف أن بوسعى أن أخاطبك، وأن بوسعك أن تجيبنى، لكنك تفلت منى، وتفلت من نفسك، آه، ما أبعدك يا صديقى!
28يونية1974.. سأعيد القيام برحلاتنا كلها. سأتوقف حيث توقفنا. فى غمرة أيام الإجازات أعتزل الناس ولا ألفظ إلا ما هو ضرورى من الكلمات. لكم أتمنى أن أكون مجرد عابرة، بالمعنى المطلق لهذه الكلمة. ولو أننى استطعت ذلك لجعلت من نفسى خيالا لا يرى. وفى الصمت، أتجه نحوك بكل قواى. كل ما بقى منى يأتى إليك.
أول مرة إلتقينا فيها كانت فى 12 مايو 1915 فى مونبلييه..لم يكن ثمة شئ فى ذلك اليوم ينبئنى بأن مصيرى كان يتقرر؛ ولم يكن بوسع أمى التى كانت بصحبتى أن تتصور أمرا مماثلا. وكنت على شئ من الحيرة، إذا لم يسبق لى فى حياتى أن كلمت أعمى..وذات يوم، يقول لى:"إغفرى لى، لابد من أن أقول لك ذلك، فأنا أحبك". وصرخت، وقد أذهلتنى المفاجأة، بفظاظة :"ولكنى لا أحبك!".. ويمضى زمن، ثم يأتى يوم آخر أقول فيه لأهلى إننى أريد الزواج من هذا الشاب.وكان ما كنت أنتظره تماما من رد فعل :"كيف؟ من أجنبى؟ وأعمى؟ وفوق ذلك كله مسلم؟! لا شك أنك جننت تماما!". ربما كان الأمر جنونا،.. نعم لقد ملئت حياتى إلى أقصى حد. وكان قد قال لى :"لعل ما بيننا يفوق الحب".
تعرف طه على سوزان عندما كانت تقرأ مقطعا من شعر رايسين، أحب نغمات صوتها وعشق طريقة إلقائها وتعلق قلبه بها. تذكر قول بشار بن برد "والاذن تعشق قبل العين أحيانا" كما أشار إلى هذا الحب الكاتب الفرنسى الكبير روبيرت لاندرى حيث قال :"وذات يوم بينما طه حسين فى مقعده فى قاعة المحاضرات فى جامعة السوربون سمع صوتا جميلا يرن فى اذنيه صوت صبيه حنون تقول له بعذوبة : إنى أستطيع أن أساعدك فى استذكار الدروس، وكانت صاحبة الصوت ما هي إلا ( سوزان ) الطالبة الفرنسية المنحدرة من عائلة كاثوليكية.
"تزوجنا يوم9أغسطس1917ببساطة.إلا أن الجميع أصروا على أن ألبس ثوب الزفاف الأبيض وأن نركب العربة المقفلة.وكان فى الشوارع جنود يقضون إجازتهم القصيرة بعيدا عن المعارك؛ ولم يكن منظر الزيجات آنذاك مألوفا. كانوا يحيوننا ويهتفون:"تحيا العروس!" وكنت أقول لهم"شكرا" وكانت تلك كلمة هزيلة للغاية بالنسبة لأولئك الذين كانو يعودون للجحيم وإلى الموت للكثير منهم، أولئك الذين بلغ بهم الكرم إلى حد أنهم كانو يبتسمون لنا."
كتب لها ذات مرة "إعذرى فرنسيتى، اعذرى أفكارى فأنا لا أفكر-وإنما أحبك".
"بدونك أشعرأننى أعمى حقا. أما وأنا معك، فإنى أتوصل إلى الشعور بالأشياء التى تحيط بى". وهى تعلق فى الأخير،هكذا"أمن الممكن ياطه أننى كنت محبوبة على هذا النحو وأننى كنت المقصودة بهذا السيل من الحنان والعاطفة؟.. ذراعى لن تمسك بذراعك مجددا، ويداى تبدوان لى الآن بلا فائدة!"
يعز على دوما هجران طريق ما. كنت أود لو أن الطريق لا تنتهى، وما أشد ما يحزننى ترك قطار أو مغادرة سيارة..هأنذى على نهاية طريق، ذلك الطريق الذى إجتزناه معا وحدنا..لكن الدرب لا يمتد أكثر من ذلك..لابد من وداعه. وإنى لأوجه له نظرة عرفان أخيرة.

معك-2
المقتطفات السابقة والتالية ليست متتابعة فى الكتاب بنفس الترتيب الذى ترد به هنا، لذا لزم التنويه.
وأسيّر العمى فى طريق لم يعرفوها.. فى مسالك لم يدروها أمشيهم. أجعل الظلمة أمامهم نوراً. أشعيا 42-16
إننا لا نحيا لنكون سعداء. عنما قلت لى هذه الكلمات فى عام 1934 أصابنى الذهول، لكننى أدرك الآن ماذا كنت تعنى، وأعرف أنه عندما يكون شأن المرء شأن طه، فإنه لا يعيش ليكون سعيداً: وإنما يعيش لأداء ما طلب منه. لقد كنا على حافة اليأس، وروحت أفكر: لا، إننا لا نحيا لنكون سعداء، ولا حتى لنجعل الآخرين سعداء. لكنى كنت على خطأ. فلقد منحت الفرح، وبذلت ما فى نفسك من الشجاعة والإيمان والأمل. كنت تعرف تماما أنه لا وجود لهذه السعادة على الأرض، وأنك أساسا، بما تمتاز به من زهد النفوس العظيمة، لم تكن تبحث عنها..
الأحد 23 يونيه: سأحاول بعد نصف ساعة أن أستمع إلى إذاعة مونت كارلو. فقد استطعت التقاطها منذ أول أمس، فألقى بى ذلك إلى قربك تماما!. ثم لا أدرى أى جهاز كان يبث موسيقى بالغة الجمال لفرانز ليست، سمفونية فاوست.. أردت هذه الرحلة لأمشى معك، ولأعيش معك..
السبت 28 يونيه: ثمانية أشهر مضت على رحيلك.. السماء سوداء والمطر يهطل. والحق أن "جاردونيه" تشاركنى حزنى بصورة خارقة. على أن مديرة الفندق وضعت إلى جوار صورتك وردة رقيقة وشاحبة.
سأعيد القيام برحلاتنا كلها. سأتوقف حيث توقفنا. فى غمرة أيام الإجازات أعتزل الناس ولا ألفظ إلا ما هو ضرورى من الكلمات. لكم أتمنى أن أكون مجرد عابرة، بالمعنى المطلق لهذه الكلمة. ولو أننى استطعت ذلك لجعلت من نفسى خيالا لا يرى. وفى الصمت، أتجه نحوك بكل قواى. كل ما بقى منى يأتى إليك. وإنما لكى آتى إليك أكتب وأتابع كتابة كل ما يطوف بقلبى.
ذات يوم، يقول لى: اغفرى لى، لابد من أن أقول لك ذلك، فأنا أحبك. وصرخت، وقد أذهلتنى المفاجأة، بفظاظة: ولكنى لا أحبك! كنت الحب بين الرجل والمرأة ولا شك. فقال بحزن: آه، إننى أعرف ذلك جيدا.. ويمضى زمن، ثم يأتى يوم آخر أقول فيه لأهلى إننى أريد الزواج من هذا الشاب.
ربما كان الأمر جنونا، لكنى كنت قد اخترت حياة رائعة. اخترت! من يدرى؟.. وكان لابد من النضال بالطبع بسبب ذلك القرار. وجاءنى أكبر عون من عم لى كنت أكن له إعجابا عظيما؛ وكان هذا العم قساً. فقد حضر ليتعرف بطه، وتنزه معه وحيدا فى حقول البيرينه مدة ساعتين؛ ثم قال لى عند العودة: بوسعك أن تنفذى ما عزمت عليه.. لا تخافى. بصحبة هذا الرجل يستطيع المرء أن يحلق بالحوار ما استطاع إلى ذلك سبيلا. إنه سيتجاوزك باستمرار.
لم نكن أغنياء، لكن طه وجد وسيلة يتمكن بها من إهدائى هدية بمناسبة عيد ميلادى؛ فقد اشترى من شارع بونابرت نسخة من لوحة"عذراء لندن" la vierge de londre لبوتيشللى هذه اللوحة بقيت دوما فى غرفتى. وكانت أجمل لحظاتنا هى الفترات التى نقضيها ونحن نستمع إلى الحفلات الموسيقية التى كانت تقدم بصورة منتظمة كل أحد فى السوربون. لم تكن باهظة التكلفة، إلا أننا كنا نضطر أحيانا للاستغناء عنها، وكنا نعزى أنفسنا بقراءة كتاب جميل.
15 يونيه:
سوزان، أود لو أصف لك ضيقى عندما تركت السفينة، عندما رجعت إلى القاهرة،..فقد دخلت غرفتنا وقبلت الزهرة وغطيت بالقبلات الصورة التى لا أراها.. ومع ذلك فقد فعل أصدقائى كل ما بوسعهم لتسليتى..عندما عدت، واجهت الفراغ، السرير الذى لا يزال على حاله، وسرير الصغيرة المغطى، والمهد الغائب.. يستحيل على القيام بشئ آخر غير التفكير بك. ولا أستطيع أن أمنع نفسى من البكاء كلما دخلت الغرفة؛ فأنا أجدك فى كل مكان دون أن أعثر عليكى. لنقل إننى فى القاهرة فى سبيل حماقة ما (لم يكن يملك ثمن تذكرة السفر!). إنى فى طريقى لتبديد ثلاثة أشهر من عمرى.. هل أعمل؟ ولكن كيف أعمل بدون صوتك الذى يشجعنى وينصحنى، بدون حضورك الذى يقوينى؟ ولمن أستطيع أن أبوح بما فى نفسى بحرية؟ ستقولين لى: عليك أن تكتب لى، لكنك تعلمين جيدا أن الكتابة غير التحدث، وأن قراءة رسالة هى ليست الاستماع إلى صوت، ثم إنك تعلمين جيدا أننى كثيرا ما لا أقول شيئا وإنما أتناول يدك وأضع رأسى على كتفك.. ثلاثة أشهر..ثلاثة أشهر.. فترة رهيبة. لقد استيقظت على ظلمة لا تطاق؛ وكان لابد لى من أن أكتب لك لكى تتبدد هذه الظلمة. أترين، كيف أنك ضيائى حاضرة كنت أم غائبة؟

قبلى الطفلين وحديثهما عنى فذلك يسعدنى. وعندما تروق لك البيرينيه أو يروق لك أى مشهد آخر ففكرى بى بهدوء وجذل. فكرى أننى إلى جانبك وأننى أرى بعينيك وأننى أعانى كل ما تعانيه.
19 يونيه:
ما أغرب الأمر. كنت أظن يا سيدتى أننى سأتعزى فى غيابك بإنتاج غزير؛ ولكنى لا أنتج شيئا. أوحى لى يا ملهمتى، قولى إنه أن أكتب الكتاب الشهير، وأن أتم ترجمتى.. وأن أكتب المقالات. كل ذلك ضرورى. لكن بدون تشجيعك لن أحقق منه شيئا.. فأنت تمنحينى كل شئ..لقد رحلت فلحق بك ذكائى، كل قلبى، كل نفسى.. ماذا أقول؟ أو لم تحملى كل ذلك معك؟
تغمرنى ظلمة بغيضة..آه! ما أقسى أن يكون المرء وحيدا، بعيدا عن حياته. إنى ضائع.. ألم أقل لك إننى لا أساوى شيئا بدونك. أولئك الذين يتحابون حقا يعرفون أن الحب حاجة إلى حضور مستمر، حتى وإن لم يكن هذا الحضور ماديا...
ويتابع (طه) فى يوليو 1922:
كان أفلاطون يفكر أننا إذ نتحاب فإننا لا نفعل سوى أن نعيد صنع ما أفسده عارض ما. عندما تنفصل نفسان عن بعضيهما، تبحث كل منهما عن الأخرى، وعندما يتواجدان ويتعارفان، فإنهما لا يعودان كائنين وإنما كائن واحد. إننى أؤمن بذلك تماما.. أتعلمين أننى أصبح صوفيا!. لو كنت شاعرا لألفت الأناشيد ولغنيتها بنشوة، لا يهم؛ فقلبى يؤلفها ويغنيها؛ ونفسى ترق وقلبى يلين؛ إننى لم أعد أتعرف على نفسى أبدا.. فلدى شخصيتان؛ واحدة للعالم كله، وأخرى لك، لى لنا؛ ولكن أترين يا سوزان، أنا لا أتحدث إلا عنى، إننى أنانى.. وكل الصوفيين أنانييون.
أحبك وأنتظرك ولا أحيا إلا على هذا الإنتظار..
أنا قليل الإفضاء بمشاعرى، بل إننى صموت، وإننى على وعى بذلك تماما، لكن ما أكثر ما حدثتك منذ رحيلك عن أشياء لا تطيقين سماعها! لم أكن أعتقد على الإطلاق بقدرتى على مثل هذا الحب. وستبقى دوما فى أعماق نفوسنا زاوية كانت وستبقى دوما وحشية، ولن يمكن تقاسمها إلا بين كائنين، كائنين فقط، أو أنها لن تقتسم على الإطلاق. هذه الزاوية الوحشية المتوحدة هى أفضل ما فينا.
ليس هناك من بين هذه الرسائل التسعين رسالة واحدة لم تكن اعترافا أو عطاء. اقرؤها وأقرأ تلك التى وصلتنى منه بعد ذلك. خمسون عاما مضت ولا أكاد أصدق ذلك إلا بصعوبة. أمن الممكن يا طه أننى كنت محبوبة على هذا النحو وأننى كنت المقصودة بهذا السيل من الحنان والعاطفة؟.. هذا القدر من الحب الذى كان على أن أحمله وحدى، وحدى، عبئا رائعا، ما أكثر ما خفت ألا أتمكن من القيام بمتطلباته بجدارة! من أين جئت أنت إذن، أنت الأقرب إلى نفسى، من أين جئت؟ وهل سيسمح لى الله أن ألقاك حيث أنت؟. للمرة الأولى، والوحيدة، لم نكن معا فى ذكرى زواجنا، كانت رسالتك يومها مفعمة جلالا: أبى حاجة للقول أنى أحبك؟ إنى لأقولها لك مع ذلك وإنه لعهد لك منى جديد. ولما كنا متحابين، فإننا سوف نسير من جديد، أقوياء بهذا الحب نحو المستقبل الذى ربما سيشبه الماضى، أو لعله سيكون أفضل منه أو ربما سيكون أسوأ منه؛ ولكن ما همنا؟ سوزان، لنتابع المسير، أعطنى يدك.
"أعطنى يدك" لقد طلبها منى أيضا فى الليلة الأخيرة، يدى، ولكنى لم أذهب معه

 ......................... 

 

قال طه حسين لزوجته قبل وفاته
"بدونكِ أشعرُ أنني أعمى حقًّا. أمّا وأنا معكْ، فإني أتوصّلُ إلى الشعور بالأشياء التي تحيطُ بي."

وبعد موته .. كتبت عنه وله وعن ما كان بينهما في كتابها المدهش " معك " ،وردت على قوله .. قائلة


" ذراعي لن تمسك بذراعك ابدا، ويداي تبدوان لي بلا فائدة بشكل محزن، فأغرق في اليأس، أريد عبر عيني المخضبتين بالدموع، حيث يقاس مدى الحب، وأمام الهاوية المظلمة، حيث يتأرجح كل شيء، أريد أن أرى تحت جفنيك اللذين بقيا محلقين، ابتسامتك المتحفظة، ابتسامتك المبهمة، الباسلة، أريد أن أرى من جديد ابتسامتك الرائعة..»

...........................


قال لها :


"ابقي،لا تذهبي ، سواء خرجت او لم أخرج، أحملكِ فيّ ، أحبكِ . ابقي،ابقي ، أحبكِ . لن أقول لكِ وداعاً ، فأنا أملككِ،وسأملكك دوماً ، ابقي ، ابقي  يا حبّي"


Sunday, 30 June 2013

ممثل بارع

تم إنشاءه بتاريخ 16 مارس 2013 كتب بواسطة: د. سلمان العودة
طباعة
سلمان العودة يكتب: ممثل بارع
لا تحزن على من تغيَّر عليك فجأة، فقد يكون اعتزل التمثيل، وعاد إلى شخصيته الحقيقية (سقراط).
وجدت الأم بنتها الصغيرة ملطخة اليد بأحمر الشفاه "الروج" فضربتها، ثم خرجت لتجد مكتوبًا على الباب "أحبك ماما"!
رجعت الأم لتضرب ابنتها مرة أخرى لماذا تشوه الباب؟!
لم تكن مشاعر الأم الحقيقية هي التي أقدمت على تجاهل تعابير الحب، بل هو الدور التمثيلي التربوي.
كلما كان الإنسان عفويًّا بعيدًا عن التكلف كان أكثر محاكاة لذاته.
عشرات الفنانين الكوميديين يخفون حالات اكتئاب حادة وينتهون بالانتحار.
مَن يمثل دور السعيد المبتسم قد يخفي خلف أسنانه البيضاء اللامعة الكثير من التعاسة.
في العلاقات الرومانسية بين خطيب وخطيبته يتحقق دور تمثيلي لجذب الانتباه.
أؤدي الدور الذي تريده لتؤدي الدور الذي أريده.
شخص يشعرني بأنني مميز ومستحق للحب ويلبي احتياجاتي، وسوف أؤدي الدور الذي يطلبه مني.
اتفاق غير معلن، وغير واعٍ في أحيان كثيرة، يقود إلى قرارات غير مدروسة.
الوقوع في الحب غالبًا لا يخلو من وهم سببه تكثيف "الأنا" وحاجتها.
دور العاشق والمعشوق يصنع علاقات كثيرة بين الشباب والفتيات، تقدم القليل من المتعة الحاضرة والكثير من الأسف والألم والصدمة.
على النقيض قد نمارس تمثيل "النسيان"، ونحاول أن نسلو، ومع أول مشاهدة أثر أو سماع اسم أو نفثة عطر تستيقظ المشاعر المدفونة.
وَداعٍ دَعا إِذ نَحنُ بِالخَيفِ مِن مِنى ... فَهَيَّجَ لَوعاتِ الفُؤادِ وَما يَدري
دَعا بِاِسمِ لَيلى غَيرَها فَكَأَنَّما ... أَطارَ بِلَيلى طائِرًا كانَ في صَدري
كثير من الأطفال يخفون غضبهم من والديهم، لأنهم يفتقدون الدفء في العاطفة وشحنات الحب.
الطفل يريد أن يكون والداه كائنين عفويين، وليس مجرد "ممثلين"، حتى لو كان التمثيل بارعًا.
قد تعمل أشياء كثيرة من أجل طفلك، وهذا جيد، ولكنه ليس كافيًا إذا أهملت من تكون أنت؟ ومن يكون هو؟
ليس حسناً أن تكون الرسالة لأولادك: "لأني أبوكم.. لأني مثالي وجيد.. عليكم أن تكونوا وتكونوا!".
لماذا يقضي بعضنا عمره يلعن السجائر، وعلبة السجائر في جيبه؟
ولماذا نظل ننتقد الأجهزة الحديثة وهيمنتها، بينما نحن نحتضنها؟
تمثيل دور المحارب والمجادل عن الحقيقة، بينما الدافع هو تحقيق معنى "أنا موجود".
كثيرون يدقِّقون في نوايا الناس والخصوم، ولكنهم يرفضون التشكيك في نواياهم، أو مراجعة مقاصدهم.
المعارك تكرس الأنا، ذلك السبع الرابض المختفي وراء بعض تصرفاتنا الشرعية والأخلاقية التي قد نظن فيها الإخلاص, وننسى ما هو كامن في اللاوعي، اللاشعور، من الشهوة الخفية، كما يسمِّيها شدَّاد بن أوس رضي الله عنه.
يبدو الليبرالي الشهير شخصية ديمقراطية حوارية حين تهب الرياح لصالحه، ويبدو شرساً داعياً إلى الفوضى والتدخل الأجنبي أو العسكري حين تضعف حظوظه.
كما يبدو الإسلامي حقوقيًّا معتدلًا في العديد من الحالات، ولكنه يخفق في أول اختبار حين تتعارض القيم مع المصالح الفردية أو الفئوية.
ندّعي أن الخلاف لا يفسد للود قضية، بينما نتداعى إلى الصواريخ العابرة عند أول بادرة اختلاف.
أحد الثرثارين ذكر عبارة لشكسبير ونسبها للإنجيل، فاعترض عليه كارنيجي وأصرّ الرجل، واحتكموا إلى رجل متخصِّص في أدب شكسبير كان في المجلس، فقال: إنها من الإنجيل، ثم همس لكارنيجي: إنها من رواية "هاملت" لشكسبير، ولكن إياك أن تبلغ الزاوية الحرجة في مجادلة أحد، فتجرح كرامته.
(2)
صار مبدأ كارنيجي: اكسب الجدل بأن تتجنبه.
وفي السُّنة: "أنا زعيم (ضامن) ببيت في رَبَض الجنة (أدناها) لمن ترك المراء وإن كان محقّاً". (أخرجه أبو داود، وحسّنه الألباني).
وفي جامع الترمذي، وسنن ابن ماجه: "مَن ترك المراء وهو محقٌّ، بنى الله له بيتاً في وسط الجنة". والأول أقوى.
لن تسمح الأنا لأحد بانتقاصها؛ فثمَّة حارس يحرسها من الانتهاك.
عندما ينتقدني أحد أو يلومني، فإن ذلك يُعد نقصاً للنفس، وستحاول "الأنا" أن تصلح الإحساس النفسي بالتبرير والدفاع واللوم.
وسواء كان الآخر على صواب أم لا، فالأنا مهتمة بالحفاظ على النفس أكثر من الحقيقة.
أن يصيح في وجهك شخص يقود سيارته: يا أبله، يا معتوه.. فهذا يعتبر آلية إصلاح غير واعية للأنا عن طريق الغضب.
شاب يقود سيارة ضخمة، تجاهل أسبقية سائق سيارة متواضعة، فلحق به السائق الظريف، وقال وهو يضحك: لماذا هذا؟ هل لأن سيارتي صغيرة؟ هل أنا "ابن الشغالة"؟!
الطرافة لا تعني أن نسمح بلفظة عنصرية تتعلق بالأم أن تمر.
الغضب يسبب تضخماً كبيراً ومؤقتاً للأنا، وكل المتطرفين في اختلالهم الوظيفي يخوضون تجربة العنف الجسدي..
الدور المشهور جدّاً هو دور الضحية المضطهدة التي تبعث على الشفقة والعطف، وتثير اهتمام الآخرين بمشكلاتها وقصتها ورحلة آلامها التي لا تتوقف.
رؤية المرء لنفسه على أنه ضحية بسبب كونه تعرض لانتهاك جسدي أو عاطفي أو نفسي، أو لأنه تربى على التذمر.
أحياناً نمارس التمثيل مع أنفسنا لكي نرتاح!
أن تقوم بما هو مطلوب منك في أي موقف دون أن يصحب ذلك "دور" فهو درس مهم في فن العيش الضروري.
أنت تصبح أكثر قوة إذا قمت بإنجاز العمل لأجل العمل فقط، وليس كوسيلة لتعزيز وحماية وتأكيد هويتك ودورك.
وجدت في المواقع الإلكترونية ملخصات لكتاب "الادّعاء وخداع النفس" تأليف آر دي لانج، ترجمة د. عادل ندى، وهو مؤلف في الفلسفة والفن والسياسة أكثر مما هو في علم النفس، ينطوي على العديد من النماذج والتطبيقات المفيدة.
التخلّي عن التمثيل صعب، ومهم، وأصدق ما يكون الإنسان مع نفسه في تلك اللحظة التي يؤمن فيها الكافر ويعيا فيها الشاعر!
حين يكون وجهاً لوجه أمام رحلة الآخرة.
هل الحياة مسرح؟ و كلنا ممثلون؟ وفي النهاية تسقط الأقنعة؟
{لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} (ق:22).
الناس موتى فإذا ماتوا انتبهوا!
في المضايق والأزمات تظهر الحقيقة كاملة.
بعدما تموت ماذا سيقول الناس عنك؟
وكن رجلًا إن أتوا بعده ... يقولون مرّ، وهذا الأثر!
تظل الـ"أنا" حية حتى بعد موتك!
أحدهم كان يطمع أن يكثر الناس في جنازته، ليقال: جنازة مشهودة!

Sunday, 16 June 2013

One Day I'll Fly Away - Ladyhawke



One Day I'll Fly Away

I follow the night
Can't stand the light
When will I begin to live again

One day I'll fly away
Leave all this to yesterday
What more could your love do for me
When will love be through with me
Why live life from dream to dream
And dread the day when dreaming ends

One day I'll fly away
Leave all this to yesterday
Why live life from dream to dream
And dread the day when dreaming ends

One day I'll fly away
Fly fly away...

DALIDA - LA DANSE DE ZORBA -




Madonna - Everybody (Official Video)



[Spoken:]
I know you've been waiting, yeah
I've been watching you, yeah
I know you wanna get up, yeah
Come on

[Chorus:]
Everybody, come on, dance and sing
Everybody, get up and do your thing
Everybody, come on, dance and sing
Everybody, get up and do your thing

Let the music take control
Find a groove and let yourself go
When the room begins to sway
You know what I'm trying to say

Come on, take a chance
Get up and start the dance
Let the D.J. shake you
Let the music take you

[chorus]
Let your body take a ride
Feel the beat and step inside
Music makes the world go 'round
You can turn your troubles upside down

Gonna have to change your mind
Gonna leave your troubles behind
Your body gets the notion
When your feet can make the motion

[chorus, repeat]
Dance and sing, get up and do your thing [repeat 3 times]

[Spoken:]
I know you've been waiting, yeah, yeah
I see you sitting there, I've been watching you
Across the room, yeah, yeah
I've been watching you, I see you sitting there by yourself
Yeah, yeah
Come on, come on, come on

[chorus]
Let the music take control
Find a groove and let yourself go
When the room begins to sway
You know what I'm trying to say

[chorus, repeat and fade]
(Dance and sing, get up and do your thing) [in background]

Friday, 26 April 2013

بين ... جبران و مي



 رسائل الحب، بين جبران خليل جبران، ومي زيادة، هو حب فريد في عصره، كذلك نادرًا

في تاريخ الأدب العربي، والعالمي.

لقد استمرت علاقة الحب بينهم، عشرين عامًا، دون أن يلتقيا إلا في علم الفكر والروح،

والأدب!

وكيف يلتقيا؟ وبينهما سبعة آلاف ميل، تفصل أجسادهم عن بعض، ومع ذلك كانا أقرب

قريبين وأشغف حبيبين.

نما حبهم، عبر مراسلة أدبية طريفة، ومساجلات فكرية؛ وروحية، ألفت بين قلبي

الأدبيين. وعلى الرغم من كل ما كُتب عن علاقات "جبران" الغرامية بعدد من النساء

أمثال "ماري هاسكل" و"ميشلين"، فإن حبه لمي كان الحب الوحيد الذي ملك عليه قلبه

وخياله.

أما هي فمع خفرها وتحفظها فقد صرحت عن حبها لجبران في مطلع رسالة 21 أيار

1921 حيث قالت:

(أحبك قليلاً، كثيرًا، بحنو، بشغف، بجنون، لا أحبك)






9 شباط 1919

يكتب لها جبران:

حضرة الأديبة والفاضلة الآنسة ماري زيادة المحترمة..

سلام على روحك الطيبة.. لقد استلمت أعداد من مجلات المقتطف التي تفضلّت بإرسالها.. فقرأتها وأنا بين السرور والإعجاب الشديد، ولقد وجدت في مقالاتك؛ سربًا من تلك الميول، والمنازع، التي طالما حامت حول فكرتي وتتبعت أحلامي، ولكن هناك مبادئ ونظريات أخرى وددت لو كان البحث فيها شفهيًا، ولكن بما أن القاهرة في مشارق الأرض ونيويورك في مغاربها ليس من سبيل إلى الحديث الذي أوده وأتمناه.


إن مقالاتك تبيّن سحر مواهبك، وغزارة إطلاعك وملاحة ذوقك في الانتقاء، والانتخاب، والترتيب. وتبيّن اختباراتك النفسية الخاصة، فالاختبار، أو الاقتناع النفسي يفوق كل علم وكل عمل، وهذا ما يجعل بحوثك أفضل ما جاء في اللغة العربية.

ولكن لي سؤال أستأذنك بطرحه لديك وهو هذا: ألا يجيء يوم ياتُرى تنصرف فيه مواهبك السامية من البحث في مآتي الأيام إلى إظهار أسرار نفسك واختباراتها ومخآبها النبيلة؟ أفليس الابتداع أبقى من البحث في المبدعين؟ ألا ترين أن نظم قصيده أو نثرها أفضل من رسالة في الشعر والشعراء؟ إني كواحد من المعجبين بك أفضل أن أقرأ لك قصيده في ابتسامة، من أقرأ لكِ رسالة في تاريخ الفنون المصرية، وكيف تدرجها من عهد إلى عهد ومن دوله إلى دوله، لأن بنظمك قصيده تهبينني شيئًا نفسيًا ذاتيًا، أما بكتابتك في تاريخ الفنون المصرية تدلينني على شيء عمومي عقلي؟ والفن هو إظهار ما يطوف ويتمايل ويتجوهر في داخل الروح.
مي..
ليس ماتقدم سوى شكل من الاستعطاف باسم الفن، فأنا أستعطفك لأني أريد أن أستميلك إلى تلك الحقول السحرية حيث سافو (1) وايليزابيت براوننغ (2) وغيرهن من أخواتك اللواتي بنين سُلّمًا من الذهب والعاج بين الأرض والسماء.

والله يحفظك للمخلص
جبران خليل جبران

ــــــــــــــــــ
(1) سافو شاعره اغريقيه لها تسع داووين من الشعر الغنائي والأناشيد
(2) ايليزابيت براوننغ شاعره بريطانية مبدعه تمتاز قصائدها بالعمق والرقة والنزعة الصوفية، وهي زوجة الشاعر الإنجليزي روبيرت براوننغ الذي أحبها من خلال قصائدها قبل أن يتعرف إليها وعندما زارها أحبته حبًا عارمًا جعلها تتغلب على مرض عضال كان قد أقعدها.



11 آذار 1925


.
.
.
من جبران إلى مي ..!!

لقد أعادت رسائلك إلى نفسي ذكرى ألف ربيع وألف خريف وأوقفتني ثانية أمام تلك الأشباح التي كنا نبتدعها ونسيرها مركبا إثر مركب .. تلك الأشباح التي ما ثار البركان في أوروبا حتى انزوت محتجة بالسكوت , وما أعمق ذلك السكوت وما أطوله ! .

هل تعلمين يا صديقتي بأني كنت أجد في حديثنا المتقطع التعزية والأنس والطمأنينة , وهل تعلمين بأني كنت أقول لذاتي , هناك في مشارق الأرض صبية ليست كالصبايا , قد دخلت الهيكل قبل ولادتها ووقفت في قدس الأقداس فعرفت السر العلوي الذي اتخذه جبابرة الصباح ثم اتخذت بلادي بلادا لها وقومي قوما لها .

هل تعلمين بأني كنت أهمس هذه الأنشودة في أذن خيالي كما وردت على رسالة منك ولو علمت لما انقطعت عن الكتابة إلي , وربما علمت فانقطعت وهذا لا يخلو من أصالة الرأي والحكمة .

جبران خليل جبران




من مي إلى جبران ...


صديقي جبران
لقد توزع في المساء بريد أوروبة وأمريكة , وهو الثاني من نوعه في هذا الأسبوع , وقد فشل أملي بأن تصلني فيه كلمة منك . نعم إني تلقيت منك في الأسبوع الماضي بطاقة عليها وجه القديسة حنة الجميل , ولكن هل تكفي الكلمة الواحدة على صورة تقوم مقام سكوت شهر كامل .

... لا أريد أن تكتب إلي إلا عندما تشعر بحاجة إلى ذلك أو عندما تنيلك الكتابة سرورا , ولكن أليس من الطبيعي أن أشرئب إلى أخبارك كلما دار موزع البريد على الصناديق يفرغ فيها جعبته ! .. أيمكن أن أرى الطوابع البريدية من مختلف البلدان على الرسائل , حتى طوابع الولايات المتحدة وعلى بعضها اسم نيويورك واضح , فلا أذكر صديقي ولا أصبو إلى مشاهدة خط يده ولمس قرطاسه .

... ولتحمل إليك رقعتي هذه عواطفي فتخفف من كآبتك إن كنت كئيبا , وتواسيك إن كنت في حاجة إلى المواساة , ولتقوك إذا كنت عاكفا على عمل ولتزد في رغدك وانشراحك إذا كنت منشرحا سعيدا .

مي زيادة


 من جبران إلى مي
نيويورك 26 شباط 1924

نحن اليوم رهن عاصفة ثلجية جليلة مهيبة، وأنت تعلمين يا ماري أنا أحب جميع العواصف وخاصة الثلجية، أحب الثلج، أحب بياضه، وأحب هبوطه، وأحب سكوته العميق. وأحب الثلج في الأودية البعيدة المجهول حتى يتساقط مرفرفاً، ثم يتلألأ بنور الشمس، ثم يذوب ويسير أغنيته المنخفضة.
أحب الثلج وأحب النار، وهما من مصدر واحد، ولكن لم يكن حبي لهما قط سوى شكل من الاستعداد لحب أقوى وأعلى وأوسع. ما ألطف من قال:

يا مي عيدك يوم
وأنت عيد الزمان

انظري يا محبوبتي العذبة إلى قدس أقداس الحياة، عندما بلغت هذه الكلمة ((رفيقة)) ارتعش قلبي في صدري، فقمت ومشيت ذهاباً في هذه الغرفة كمن يبحث عن رفيقه. ما أغرب ما تفعله بنا كلمة واحدة في بعض الأحايين! وما أشبه تلك الكلمة الواحدة برنين جرس الكنيسة عند الغروب! إنها تحول الذات الخفية فينا من الكلام إلى السكوت، ومن العمل إلى الصلاة.

تقولين لي أنك تخافين الحب.
لماذا تخفين يا صغيرتي؟
أتخافين نور الشمس؟
أتخافين مد البحر؟
أتخافين مجيء الربيع؟
لماذا يا ترى تخافين الحب؟

أنا أعلم أن القليل من الحب لا يرضيك، كما أعلم أن القليل في الحب لا يرضيني، أنت وأنا لا ولن نرضى بالقليل. نحن نريد الكثير. نحن نريد كل شيء. نحن نريد الكمال. أقول يا ماري إن في الإرادة الحصول، فإذا كانت إرادتنا ظلاً من أظلال الله، فسوف نحصل بدون شك على نور من أنوار الله.

لا تخافي الحب يا ماري، لا تخافي الحب يا رفيقة قلبي، علينا أن نستسلم إليه رغم ما فيه من الألم والحنين والوحشة، ورغم ما فيه من الالتباس والحيرة.
اسمعي يا ماري: أنا اليوم في سجن من الرغائب، ولقد ولدت هذه الرغائب عندما ولدت. وأنا اليوم مقيد بقيود فكرة قديمة، قديمة كفصول السنة، فهل تستطيعين الوقوف معي في سجني حتى نخرج إلى نور النهار وهل تقفين إلى جانبي حتى تنكسر هذه القيود فنسير حرين طليقين نحو قمة جبالنا؟

والآن قربي جبهتك. قربي جبهتك الحلوة – ………………والله يباركك ويحرسك يا رفيقة قلبي الحبيبة.

جبران

لا بأس – على أنني أخشى بلوغ النهاية قبل الحصول على هذا الشرف وهذا الثواب.

لنعد هنيهة إلى ((عيدك)) أريد أن أعرف في أي يوم من أيام السنة قد ولدت صغيرتي المحبوبة. أريد أن أعرف لأني أميل إلى الأعياد وإلى التعييد.
وسيكون لعيد ماري الأهمية الكبرى عندي. ستقولين لي ((كل يوم يوم مولدي يا جبران))
وسأجيبك قائلاً: ((نعم، وأنا أعيّد لك كل يوم، وكان لا بد من عيد خصوصي مرة كل سنة)).




رسالة مي وجدانية صافية:

فبعد أن انتظرت دون جدوى، حضور جبران إلى القاهرة

وكانت قد تجاوزت الخامسة والثلاثين من العمر، لملمت كل

شجاعتها، وكتبت له أجمل رسالة حب:

التصريح بالحب

(...جبران! لقد كتبت كل هذه الصفحات لأتحايد كلمة الحب.

إن الذين لا يتاجرون بمظهر الحب ودعواه في المراقص

والاجتماعات، ينمي الحب في أعماقهم قوة ديناميكية قد

يغبطون الذين يوزعون عواطفهم في اللألأ السطحي لأنهم

لا يقاسون ضغط العواطف التي لم تنفجر، ولكنهم يغبطون

الآخرين على راحتهم دون أن يتمنوها لنفوسهم،

ويفضلون وحدتهم، ويفضلون السكوت، ويفضلون تضليل

القلوب عن ودائعها، والتلهي بما لا علاقة له بالعاطفة.

ويفضلون أي غربة وأي شقاء (وهل من شقاءٍ في غير

وحدة القلب؟) على الاكتفاء بالقطرات الشحيحة.

ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به،

ولكني أعرف أنك محبوبي، وأني أخاف الحب. أقول هذا

مع علمي أن القليل من الحب الكثير. الجفاف والقحط

واللاشيء بالحب خير من النزر اليسير.

كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا. وكيف أفرط فيه؟ لا أدري.

الحمد لله أني أكتبه على الورق ولا أتلفظ به لأنك لو كانت

الآن حاضراً بالجسد لهربت خجلاً بعد هذا الكلام،

ولاختفيت زمناً طويلاً، فما أدعك تراني إلا بعد أن تنسى.

حتى الكتابة ألوم نفسي عليها، لأني بها حرة كل هذه

الحرية.. أتذكر قول القدماء من الشرقيين: إن خير للبنت

أن لا تقرأ ولا تكتب.

إن القديس توما يظهر هنا وليس ما أبدي هنا أثراً للوراثة

فحسب، بل هو شيء أبعد من الوراثة. ما هو؟ قل لي أنت

ما هو. وقل لي ما إذا كنت على ضلال أو هدى فإني أثق

بك.. وسواء أكنت مخطئة أم غير مخطئة فإن قلبي يسير

إليك، وخير ما يفعل هو أن يظل حائماً حواليك، يحرسك

ويحنو عليك.

... غابت الشمس وراء الأفق، ومن خلال السحب العجيبة

الأشكال والألوان حصحصت نجمة لامعة واحدة هي

الزهرة، آلهة الحب، أترى يسكنها كأرضنا بشر يحبون

ويتشوقون؟ ربما وجد فيها بنت هي مثلي، لها جبران

واحد، حلو بعيد هو القريب القريب. تكتب إليه الآن

والشفق يملأ الفضاء، وتعلم أن الظلام يخلف الشفق، وأن

النور يتبع الظلام، وأن الليل سيخلف النهار، والنهار

سيتبع الليل مرات كثيرة قبل أن ترى الذي تحب، فتتسرب

إليها كل وحشة الشفق، وكل وحشة الليل، فتلقي بالقلم

جانباً لتحتمي من الوحشة في اسم واحد: جبران)





نيويورك 2 كانون الثاني 1914



حضرة الأديبة الفاضلة.
قد فكرت بأمور كثيرة في تلك الشهور الخرساء التي مرت بدون خطاب ولا جواب ولكنه لم يخطر على بالي كونك " شريرة" أما الآن وقد صرّحت لي بوجود الشر في روحك فلا يجمل بي سوى تصديقك فأنا أصدق وأثق بكل كلمة تقولينها لي ! أنت بالطبع تفتخرين بقولك – أنا شريرة – ويحق لك الافتخار لأن الشر قوة تضارع الخير بعزمها وتأثيرها . ولكن اسمحي لي أن أقول لك مصرحاً بأنك مهما تماديت بالشر فلا تبلغين نصف ما بلغته فأنا شرير كالأشباح الساكنة في كهوف الجحيم بل أنا شرير كالروح السوداء التي تحرس أبواب الجحيم ! وأنت بالطبع ستصدقين كلامي هذا !.

غير أنني للآن لم أفهم الأسباب الحقيقية التي دعتك إلى استخدام الشر ضدي فهلا تكرمت بافهامي ؟ قد أجبت على كل رسالة تكرمت بها عليّ واسترسلت متعمقاً بمعاني كل لفظة تعطفت بهمسها في أذني فهل هناك أمر آخر كان يجب عليّ أن أفعله ؟ أو لم تبدعي لي من " لا شيء" ذنباً لتبيني لي مقدرتك على الاقتصاص ؟ لقد فلحت وأحسنت البيان , أما أنا فقد آمنت باقنومك الجديد الكلي المطلق الجامع بين أسياف " كالي" ربة الهند وسهام " ديانا" معبودة الأغريق .

والآن وقد فهم كل منا ما في روح الآخر من الشر والميل إلى الاقتصاص فلنعد إلى متابعة الحديث الذي ابتدأنا به منذ عامين . كيف أنت وكيف حالك ؟ هل أنت بصحة وعافية ( كما يقول سكان لبنان )؟ هل خلعت ذراعاً ثانية في الصيف الماضي أم منعتك والدتك من ركوب الخيل فعدت إلى مصر صحيحة الذراعين ؟ أما أنا فصحتي أشبه شيء بحديث السكران وقد صرفت الصيف والخريف متنقلاً بين أعالي الجبال وشواطئ البحر ثم عدت إلى نيويورك أصفر الوجه نحيل الجسم لمتابعة الأعمال ومصارعة الأحلام – تلك الأحلام الغريبة التي تصعد بي إلى قمة الجبل ثم تهبط بي إلى أعماق الوادي .

وقد سررت باستحسانك مجلة الفنون فهي أفضل ما ظهر من نوعها في العالم العربي , أما صاحبها فهو فتى عذب النفس دقيق الفكر وله كتابات لطيفة وقصائد مبتكرة ينشرها تحت اسم " ليف" ومما يستدعي الإعجاب بهذا الشاب هو أنه لم يترك شيئاً مما كتبه الافرنج إلا وعرفه حق المعرفة . أما صديقنا أمين الريحاني فقد ابتدأ بنشر رواية جديدة طويلة في مجلة فنون وقد قرأ لي أكثر فصولها فوجدتها جميلة للغاية ولقد أخبرت صاحب الفنون بأنك سوف تبعثين إليّ بمقالة ففرح وبات يترقب .

بكل أسف أقول انني لا أحسن الضرب على آلة من آلات الطرب ولكنني أحب الموسيقى محبتي الحياة ولي ولع خاص بدرس قواعدها ومبانيها والتعمق بتاريخ نشأتها وارتقائها , فان ابقتني الأيام سأكتب رسالة طويلة في الدوائر العربية والفارسية وكيفية ظهورها وتدرجها وتناسخها .

ولي ميل للموسقى الغربية يضارع ميلي للأنغام الشرقية فلا يمر أسبوع إلا وأذهب مرة أو مرتين إلى الأوبرا غير أني أفضل من البيان الموسيقي الأفرنجي تلك المعروفة بالسنفوني والسوناتا والكنتاتا على الأوبرا والسبب في ذلك خلوّ الأوبرا من البساطة الفنية التي تناسب أخلاقي وتتمايل مع أميالي . واسمحي لي الآن أن أغبط يدك على عودك وعودك على يدك وأرجوك أن تذكري اسمي مشفوعاً باستحساني كلما ضربت نغم النهوند على الأوتار فهو نغم أحبه ولي رأي فيه يشابه رأي " كارليل في النبي محمد ". ( كارلايل : أديب ومؤرخ انكليزي درس بعضا من العربية في جامعة كمبردج سنة 1795 وكتب عن النبي محمد فصلا ضمنه إعجابه بشخصيته البطولية في مؤلفه " الأبطال , عبادة الأبطال , والبطولة في التاريخ "

وهلا تكرمت بذكري أمام هيبة أبي الهول ؟ عندما كنت في مصر كنت أذهب مرتين في الأسبوع واصرف الساعات الطوال جالساً على الرمال الذهبية محدقاً بالأهرام وكنت في ذلك العهد صبياً في الثامنة عشرة ذا نفس ترتعش أمام المظاهر الفنية ارتعاش الأعشاب أمام العاصفة , أما أبو الهول فكان يبتسم لي ويملأ قلبي بحزن عذب وندبات مستحبة .

أنا معجب مثلك بالدكتور شميل فهو واحد من القليلين الذين انبتهم لبنان ليقوموا بالنهضة الحديثة في الشرق الأدنى وعندي أن الشرقيين يحتاجون إلى أمثال الدكتور شميل حاجة ماسة كرد فعل للتأثير الذي أوجده الصوفيون والمتعبدون في القطرين مصر وسوريا .

هل قرأت الكتاب الفرنساوي الذي وضعه خير الله افندي خير الله ؟ أنا لم أره بعد وقد أخبرني صديق أن في الكتاب فصل عنك وفصل آخر عني فإذا كان لديك نسختان تكرمي بإرسال نسخة منهما إليّ وأجرك على الله .

ها قد انتصف الليل فليسعد الله مساءك ويبقيك للمخلص ...!!
جبران خليل جبران

____________________________________________________________________


د جبران على رسالة مي ..

"ماألطف قول من قال :

ياميّ عيدك يوم ** وأنتِ عيد الزمان

ما أغرب ماتفعله كلمه واحد في بعض الأحيان , أنها تحوّل الذات الخفيه فينا من الكلام إلى السكوت .. تقولين أنك تخافين الحب ! لماذا تخافينه ؟ أتخافين نور الشمس ؟ أتخافين مدّ البحر ؟ أتخافين طلوع الفجر ؟ أتخافين مجيء الربيع ؟ لماذا ياترى تخافين الحب ؟

أنا أعلم أن القليل في الحب لايرضيكِ , كما أعلم أن القليل في الحب لايرضيني , أنتِ وأنا لا ولن نرضى بالقليل , نحن نريد الكمال ..الكثير , كل شيء !
لاتخافي الحب يارفيقة قلبي , علينا أن نستسلم إليه رغم مافيه من الألم والحنين والوحشه , ورغم مافيه من الألتباس والحيره ..

جبران

ارتاحت مي لهذه اللهجه , وتشجعت على مداعبته في الحديث , والأفضاء إليه بخوالج نفسها وهمومها .. كان همها أن يبقى جبران حبيبها الأوحد لتدوم تلك الشعله الزرقاء منهلاً للنعيم والنور في حياتها . أضحت مي شديدة القلق على صحة جبران في سنوات عمره الأخيره كما يبدوا جلياً في رسائله إليها ,وقد وصف جبران أسلوبها ورسائلها فقال انها

( كالنهر الرحيق الذي يتدفق من الأعالي ويسير مترنماً في وادي احلامي , بل كقيثارة التي تقرّب البعيد وتُبعد القريب , وتحوّل بارتعاشاتها السحريه الحجاره إلى شعلات متقّده , والأغصان اليابسه إلى أجنحه مضطربه )
ربما يكو ن أهل مي وبعض المقربين منها قد أطلعوا على صلتها بجبران في حياتها ,ولكن المرجّح انها كانت حريصه على اخفائها عن الناس جميعاً , وأبقتها سراً دفيناً في نفسها حتى ذلك اليوم الذي فجعت بموته عام 1931م , فبعد انقضاء شهر على وفاته اعترفت ميّ لقرائها بوجود مراسله طويله بينها وبين جبران وذلك في مقاله (جبران خليل جبران يصف نفسه في رسائله) ضمتها فقرات قصيره من رسائله اليها , وعبرت عن حزنها العميق عليه مصّوره غربتها وغربته في الوجود بعبارات موجعه قالت فيها

"حسناً فعلت بأن رحلت ! فاذا كان لديك كلمه أخرى فخير لك أن تصهرها وتثقفّها , وتطهرها لتستوفيها في عالم ربما يفضل عالمنا هذا في أمور شتى..."
وفي ختام تلك القطعه الوجدانيه المؤثره الفائضه بالحب واللوعه واليأس , أعربت ميّ عن شوقها للرحيل , ولكن مشيئة القدر فرض عليها ان تعيش بعد جبران عشر سنوات تقريباً كانت أسؤا مرحله في حياتها , فقد أستبد بها الحزن ..وعاشت في غمرة الأحزان تمزّقها الوحده والوحشه بعد فقده , أصيبت بانهيار عصبي , تبعه انهيار في صحتها , فاعتزلت الناس , أرسلت الى قريب لها في بيروت دكتور جوزيف زياده رساله مؤثره وصفت الآمها وتردّي صحتها , تلك المحنه قادتها الى لبنان موطنها الأصلي وأدخلتها ظلماً الى مصح الأمراض العقليه مما طعنها في كرامتها ,وقضت ثلاث سنوات متنقله بين ( العصفوريه ) كما يسمونه , ومصح دكتور بيريز وبين بيت متواضع , الى أن هبّوا اقاربائها لأنقاذها , وعادت لى القاهره عاشت سنتين ونصف , الى أن ذوت شيئاً فشيئاً ,فتوفيت عام 1941م
وماهو جدير بالذكر ان مي عندما كانت في لبنان اصطحبت رسائل جبران معها , وكانت تلجاً اليها على انفراد , حين يشفّها الوجد , وصوره لجبران كتبت بخطها الى جانب الصوره ...
( وهذه مصيبتي منذ أعوام )

.

نيويورك حزيران – 1919

عزيزتي الآنسة ميّ.

رجعت اليوم من سفره مستطيلة إلى البرية فوجدت رسائلك الثلاث والمقال الجميل الذي تفضلت بنشره في جريدة المحروسة . ولقد علمت من خادمي أن هذه الرسائل بل هذه الثروة الجليلة قد وصلت معاً منذ أربعة أيام . الظاهر أن البريد المصري قد توقف عن اصدار الرسائل من القطر مثلما حجز الرسائل الواردة إليه .

ولقد انصرفت عن كل ما وجدته بانتظاري في هذا المكتب لأصرف نهاري مصغياً إلى حديثك الذي يتمايل بين العذوبة والتعنيف – أقول التعنيف لأنني وجدت في رسالتك الثانية بعض الملاحظات التي لو سمحت لنفسي الفرحة أن تتألم لتألمت منها . ولكن كيف اسمح لنفسي النظر إلى شبه سحابة في سماء صافية مرصعة بالنجوم ؟ وكيف أحول عيني عن شجرة مزهرة إلى ظلّ من أغصانها ؟ وكيف لا أقبل وخزة صغيرة من يد عطرة مفعمة بالجواهر ؟ إن حديثنا الذي أنقذناه من سكوت خمسة أعوام لا ولن يتحول إلى عتاب أو مناظرة , فأنا أقبل بكل ما تقولينه لاعتقادي بأنه يجمل بنا وسبعة آلاف ميل تفصلنا ألا نضيف فتراً واحداً إلى هذه المسافة الشاسعة بل أن نحاول تقصيرها بما وضعه الله فينا من الميل إلى الجميل والشوق إلى المنبع والعطش إلى الخالد . يكفينا يا صديقتي ما في هذه الأيام وهذه الليالي من الأوجاع والتشويش والمتاعب والمصاعب . وعندي أن فكرة تستطيع الوقوف أمام المجرد المطلق لا تزعجها كلمة جاءت في كتاب أو ملاحظة أتت في رسالة. إذا فلنضع خلافاتنا , وأكثرها لفظية – في صندوق من ذهب ولنرمي بها إلى بحر من الابتسامات .

ما أجمل رسائلك يا ميّ وما أشهاها , فهي كنهر من الرحيق يتدفق من الأعالي ويسير مترنماً في وادي أحلامي , بل هي كقيثارة اورفيوس ( شاعر وموسيقي تحدثت عنه أساطير اليونان , سحر بأنغامه وحش الغاب وآلهة الجحيم .) تقرب البعيد وتبعد القريب وتحول بارتعاشاتها السحرية الحجارة إلى شعلات متقدة والأغصان اليابسة إلى أجنحة مضطربة . إن يوماً يجيئني منك برسالة واحدة لهو من الأيام بمقام القمة من الجبل فما عسى أن أقول في يوم يجيئني بثلاث رسائل ؟ ذلك يوم انتحى فيه عن سبل الزمن لأصرفه متجولا في إرم ذات العماد.

وبما أجيب على سؤالاتك؟ وكيف أستطيع متابعة الحديث وفي النفس مالا يسيل مع الحبر ؟ ولكن لا بد من متابعة الحديث . فما بقي صامتاً ليس بالغير مفهوم لديك .

تقولين في رسالتك الأولى " لو كنت أنا في نيويورك لكنت زرت مكتبك الفني في هذه الأيام " أفلم تزوري مكتبي قط ؟ أليس رواء أثواب الذكرى الظاهرة جسد خفي للذكرى ؟ انما مكتبي هيكلي وصديقي ومتحفي وجنتي وجحيمي . هو غاب تنادي فيه الحياة الحياة وهو صحراء خالية أقف في وسطها فلا أرى سوى بحر من رمال وبحر من أثير . إن مكتبي يا صديقي هو منزل بدون جدران وبدون سقف .

ولكن في مكتبي هذا أشياء كثيرة أحبها وأحافظ عليها . أنا مولع بالآثار القديمة وفي زوايا هذا المكتب مجموعة صغيرة من طرائف الأجيال وبعض نفائسها كتماثيل وألواح مصرية ويونانية ورومانية وزجاج فينيقي وخزف فارسي وكتب قديمة العهد ورسوم ايطالية وفرنسية وآلات موسيقية تتكلم وهي صامتة . ولا بد من الحصول يوما ما على تمثال كلداني من الحجر الأسود . إني أميل بكليتي إلى كل شيء كلداني فأساطير هذا الشعب وشعره وصلواته وهندسته بل وأصغر أثر أبقاه الدهر من فنونه وصنائعه ينبّه في داخلي تذكارات غامضة بعيدة ويعود بي إلى الماضي الغابر ويجعلني أرى الحاضر من نافذة المستقبل . أحب الآثار القديمة وأشغف بها لأنها من أثمار الفكرة البشرية السائرة بألف قدم من الظلام نحو النور – تلك الفكرة الخالدة التي تغوص بالفن إلى أعماق البحار وتصعد به إلى المجرة .

أما قولك " ما أسعدك أنت القانع بفنك " فقد جعلني أفتكر طويلاً , لا يا ميّ لست بقانع ولا أنا بسعيد . في نفسي شيء لا يعرف القناعة ولكنه ليس كالطمع , ولا يدري ما السعادة غير أنه لا يشابه التعاسة . في أعماقي خفقان دائم وألم مستمر ولكنني لا أريد ابدال هذا ولا تغيير ذاك – ومن كان هذا شأنه فهو لا يعرف السعادة ولا يدري ما هي القناعة ولكنه لا يشكو لأن في الشكوى ضرباً من الراحة وشكلاً من التفوق .

وهل أنت سعيدة وقانعة بمواهبك العظيمة ؟ أخبريني يا ميّ هل أنت قانعة وسعيدة ؟ أكاد أسمعك هامسة : " لا لست بقانعة ولا أنا بسعيد " إن القناعة هي الاكتفاء والاكتفاء محدود وأنت غير محدودة .
أما السعادة فهي أن يملأ المرء نفسه من خمرة الحياة ولكن من كان كأسه سبعة آلاف فرسخ بالطول و سبعة آلاف فرسخ بالعرض لا ولن يعرف السعادة حتى تنسكب الحياة بكاملها في كأسه . أفليس كأسك يا ميّ سبعة آلاف فرسخ وفرسخ ؟

وماذا أقول عن " جوي المعنوي؟" لقد كانت حياتي منذ عام أو عامين لا تخلو من الهدوء والسلامة أما اليوم فقد تبدل الهدوء بالضجيج والسلامة بالنزاع . إن البشر يلتهمون أيامي ولياليّ ويغمرون أحلامي بمنازعهم ومراميهم فكم مرة هربت من هذه المدينة الهائمة إلى مكان قصيّ لأتخلص من الناس ومن أشباح نفسي أيضاً . إنما الشعب الأماركي جبار لا يكل ولا يمل ولا يتعب ولا ينام ولا يحلم , فإذا بغض هذا الشعب رجلا قتله بالإهمال وإذا أحبه قتله بالانعطاف فمن شاء أن يحيى في نيويورك عليه أن يكون سيفاً سنيناً ولكن في غمد من
العسل : السيف لروع الراغبين في قتل الوقت والعسل لارضاء الجائعين !

وسوف يجيء يوم أهرب فيه إلى الشرق . إن شوقي إلى وطني يكاد يذيبني ولولا هذا القفص الذي حبكت قضبانه بيدي – لاعتليت متن أول سفينة سائرة شرقاً . ولكن أي رجل يستطيع أن يترك بناءً صرف عمره بنحت حجارته وصفّها ؟ حتى وإن كان ذلك البناء سجناً له فهو لا يقدر أو لا يريد أن يتخلص منه في يوم واحد .

سامحيني أيتها الصديقة العزيزة فقد أزعجتك بالكلام عن نفسي وبشكواي من أمور أدعى إلى الجهاد منها إلى التذمر .

إن استحسانك " المواكب" قد جعلها عزيزة لديّ . أما قولك بأنك ستستظهرين أبياتها فمنّة أحني أمامها رأسي , غير أنني أشعر بأن حافظتك خليقة بقصائد أسمى وأبلغ وأنبل من كل ما جاء في المواكب , بل ومن كل ما كتبته وأكتبه . وأما قولك في رسوم الكتاب " أنتم أهل الفن تبرزون هذه البدائع بقوى أثيرية احتفظتكم عليها ملوك الجوزاء فنأتي بغباوتنا أشقياء مظلومون ونحن بها أشقياء خاسرون " فكلام لا أقبله بل إني استميحك بالتمرد عليه و ( ما أكثر تمردي) – أنت يا ميّ منا وفينا . بل وأنت بين بنات الفن وأبنائه كالوردة بين أوراقها . إن ما جاء في مقالتك التي نشرت في " المحروسة" عن رسوم المجنون لأكبر دليل على شعور فني عميق وفكرة خاصة دقيقة وبصيرة نفاذة ترى ما لا يراه غير القليل من الناس . ولست بمبالغ إذا قلت بأنك أول صبية شرقية مشت في غابة " الأخوات التسع ( إشارة إلى الآلهات التسع في الميثولوجيا الاغريقية المشرفات على الآداب والفنون وقد عرفن بأسماء عديدة في عصور التاريخ القديم .) بقدم ثانية ورأس مرفوع وملامح منفرجة كأنها في بيت أبيها . ألا فأخبريني كيف عرفت كل ما تعرفين وفي أي عالم جمعت خزائن نفسك وفي أي عصر عاشت روحك قبل مجيئها إلى لبنان ؟ إن في النبوغ سراً أعمق من سر الحياة .

وأنت تريدين أن تسمعي ما يقوله الغربيون عني , فألف شكر لك على هذه الغيرة وهذا الاهتمام القومي . لقد قالوا الشيء الكثير وكانوا مبالغين في أقوالهم متطرفين في ظنونهم متوهمين وجود الجمل في وكر الأرنب . ويعلم الله يا صديقتي بأنني ما قرأت شيئاً حسناً عني إلا ونحت في قلبي . إن الاستحسان نوع من المسؤولية يضعها الناس على عواتقنا فتجعلنا نشعر بضعفنا . ولكن لا بد من المسير حتى ولو قوّص الحمل الثقيل ظهورنا , ولا بد من استنباط القوة من الضعف . أنا باعث إليك في غلاف آخر بشيء من أقوال الجرائد والمجلات وستعلمين منها أن الغربيين قد ملوا أشباح أرواحهم وضجروا من ذواتهم فأصبحوا يتمسكون بالغريب الغير مألوف خصوصاً إذا كان شرقياً . هكذا كان الشعب الأثيني بعد انقضاء عصره الذهبي . لقد بعثت منذ شهر أو أكثر بمجموعة من أقوال الصحف في المجنون إلى اميل زيدان ( تولى رئاسة تحرير مجلة الهلال سنة 1914 التي أسسها والده الأديب العلامة جرجي زيدان .) وهو بالطبع من أصدقائك .

أحمد الله وأشكره على انقضاء الأزمة عندكم . ولقد كنت أقرأ أخبار تلك المظاهرات فأتخيلك هائبة فأهاب , مضطربة فاضطرب . ولكنني كنت أردد في الحالين قول شكسبير :

Do not fear our person .
There’s such divinity doth hedge a king
That treason can but peep to what it would
Acts little of his will .
لا تخافي منا
فالملك تحيط به هالة من القداسة
وليس في مقدور الخيانة
أن تبلغ ما ترمي إليه
أو تحد من عزيمته

وأنت يا ميّ من المحروسين وفي نفسك مَلَكٌ يحميه الله من كل مكروه .
وتسألين ما اذا كان لكم من صديق في ربوعنا ؟

أي والحياة وما في الحياة من حلاوة جارحة ومرارة مقدسة إن لكم في ربوعنا صديقاً إرادته تدافع عنكم ونفسه ترغب في الخير لكم وابعاد السوء عنكم وتحميكم من كل أذى . وقد يكون الصديق الغائب أدنى وأقرب من الصديق الحاضر . أفليس الجبل أكثر هيبة وأشد وضوحاً وظهوراً لسائرٍ في السهل منه لساكنيه ؟

ها قد غمر المساء هذا المكتب بوشاحه فلم أعد أرى ما تخطه يدي . وألف تحية لك وألف سلام عليك والله يحفظك ويحرسك دائماً .

صديقك المخلص
جبران خليل جبران

___________________________________________________________________ 

رساله قصيره ...من جبران خليل جبران

عزيزتي الانسه ميّ ..

إني باعث اليك بأول نسخه بلغت يدي من كتاب " المواكب " (1) الذي صدر اليوم , وهو كما تجدينه , حلم لم يزل نصفه ضباباً , والنصف الاخر يكاد يكون جسماً محبوباً , فإن استحسنت فيه شيئا تحوّل هو إلى حقيقه حسنه , وأن لم تستحسني فيه شيئاً عاد إلى الضباب بجملته .
وألف تحيه وسلام إلى روحك الطيبه والله يحفظك ويحرسك .



(1)
المواكب من القصائد القليله التي اتبع جبران في نظمها الوزن والقافيه وقد ذيّلها بمجموعه من الرسوم معبراً عن خطراته الفلسفيه في كل من الشعر والرسم , ونشرت عام 1919م ونقدتها مي في مجلة الهلال المصريه
______________________________________________________________


أو لستى أنتى أيضاً يامى غريبة عن هذا العالم ؟ ألست بالحقيقة غريبة عن محيطك وعن كل ما في محيطك من الأغراض والمنازع و المآتي والمرامي ؟ أخبريني ، أخبريني يا مي هل في هذا العالم كثيرون يفهمون لغة نفسك ؟ كم مرة يا ترى لقيتِ من يسمعك وأنت ساكتة ويفهمك وأنت ساكتة ويطوف معك في قدس أقداس الحياة وأنت جالسة قبالته في منزل بين المنازل ؟

أنت وأنا من الذين حباهم الله بالأصدقاء والمحبين والمريدين الكثيرين . هل بينهم من يعرف أن وراء أغانينا أغنية لا تسجنها الأصوات ولا ترتعش بها الأوتار ؟ هل بينهم من يعرف الفرح في كآبتنا والكآبة في فرحنا ؟

 ________________________________________________________________

تقولين لي " أنت فنّي وفيلسوف وأنت شاعر ويجب عليك أن تكون سعيداً مقتنعاً لأنك فنّي وشاعر "

ولكن يا مي أنا لست بفني ولا بشاعر . قد صرفت أيامي وليالي مصوراً وكاتباً ولكن " أنا " لست في أيامي ولياليَّ .


أنا ضباب يا مي . أنا ضباب وفي الضباب وحدتي وفيه وحشتي وانفرادي وفيه جوعي وعطشي . ومصيبتي أن هذا الضباب ، وهو حقيقي ، يشوق إلى لقاء ضباب آخر في الفضاء . يشوق إلى استماع قائل يقول " لست وحدك ، نحن اثنان ، أنا أعرف من أنت "
....

اخبريني ، اخبريني يا صديقتي ، أيوجد في هذا العالم من يقدر ويريد أن يقول لي " أنا ضباب آخر أيها الضباب ، فتعال نخيم على الجبال وفي الأودية . تعال نسير بين الأشجار وفوقها ، تعال نغمر الصخور المتعالية . تعال ندخل معاً إلى قلوب المخلوقات وخلاياها ، تعال نطوف في تلك الأماكن البعيدة المنيعة الغير معروفة " قولي لي يا مي ، أيوجد في ربوعكم من يريد ويقدر أن يقول لي ولو كلمة واحدة من هذه الكلمات ؟

وأنتِ تريدين أن ابتسم " وأعفو "

لقد ابتسمت كثيراً منذ هذا الصباح . وها أنا ابتسم في أعماقي ، وابتسم في كليتي ، وابتسم طويلاً وابتسم كأنني لم أخلق إلا للابتسام .



أما " العفو" فكلمة هائلة فتاكة جارحة أوقفتني مخجولاً متهيباً أمام الروح النبيلة التي تتواضع إلى هذا الحد ، وجعلتني أحني رأسي طالباً منها العفو . أنا وحدي المسيء . قد أسأت في سكوتي وفي قنوطي لذلك استعطفك أن تغتفري ما فرط مني وتسامحيني