Wednesday, 24 July 2013

مقتطفات من : معك .. سوزان طه حسين



مقتطفات من : معك .. سوزان طه حسين
 ترجمة، تحقيق: بدر الدين عرودكي

الناشر : دار المعارف
1979
1982

معك
-1
فى 9 يوليو1975، أى بعد مضى ثمانية وخمسين عاما على اليوم الذى وحدنا فيه حياتنا، وبعد مضى ما يقرب من العامين على رحيلك عنى، سأحاول أن أتحدث عنك مادام قد طلب إلى ذلك.. أريد بكل بساطة أن أخلد للذكرى مستعيدة ذلك الحنان الهائل الذى لا يعوض؛ ولا شك أنك تدرك ذلك أنت الذى كتبت لى ذات يوم "لسنا معتادين على أن يتألم الواحد منا بمعزل عن الآخر".
24يونية1974..يقلقنى عجزى عن إعادتك إلى قربى ويقنطنى. أعرف أنك تحيا، ولكن أين؟ وكيف؟، وأعرف أن بوسعى أن أخاطبك، وأن بوسعك أن تجيبنى، لكنك تفلت منى، وتفلت من نفسك، آه، ما أبعدك يا صديقى!
28يونية1974.. سأعيد القيام برحلاتنا كلها. سأتوقف حيث توقفنا. فى غمرة أيام الإجازات أعتزل الناس ولا ألفظ إلا ما هو ضرورى من الكلمات. لكم أتمنى أن أكون مجرد عابرة، بالمعنى المطلق لهذه الكلمة. ولو أننى استطعت ذلك لجعلت من نفسى خيالا لا يرى. وفى الصمت، أتجه نحوك بكل قواى. كل ما بقى منى يأتى إليك.
أول مرة إلتقينا فيها كانت فى 12 مايو 1915 فى مونبلييه..لم يكن ثمة شئ فى ذلك اليوم ينبئنى بأن مصيرى كان يتقرر؛ ولم يكن بوسع أمى التى كانت بصحبتى أن تتصور أمرا مماثلا. وكنت على شئ من الحيرة، إذا لم يسبق لى فى حياتى أن كلمت أعمى..وذات يوم، يقول لى:"إغفرى لى، لابد من أن أقول لك ذلك، فأنا أحبك". وصرخت، وقد أذهلتنى المفاجأة، بفظاظة :"ولكنى لا أحبك!".. ويمضى زمن، ثم يأتى يوم آخر أقول فيه لأهلى إننى أريد الزواج من هذا الشاب.وكان ما كنت أنتظره تماما من رد فعل :"كيف؟ من أجنبى؟ وأعمى؟ وفوق ذلك كله مسلم؟! لا شك أنك جننت تماما!". ربما كان الأمر جنونا،.. نعم لقد ملئت حياتى إلى أقصى حد. وكان قد قال لى :"لعل ما بيننا يفوق الحب".
تعرف طه على سوزان عندما كانت تقرأ مقطعا من شعر رايسين، أحب نغمات صوتها وعشق طريقة إلقائها وتعلق قلبه بها. تذكر قول بشار بن برد "والاذن تعشق قبل العين أحيانا" كما أشار إلى هذا الحب الكاتب الفرنسى الكبير روبيرت لاندرى حيث قال :"وذات يوم بينما طه حسين فى مقعده فى قاعة المحاضرات فى جامعة السوربون سمع صوتا جميلا يرن فى اذنيه صوت صبيه حنون تقول له بعذوبة : إنى أستطيع أن أساعدك فى استذكار الدروس، وكانت صاحبة الصوت ما هي إلا ( سوزان ) الطالبة الفرنسية المنحدرة من عائلة كاثوليكية.
"تزوجنا يوم9أغسطس1917ببساطة.إلا أن الجميع أصروا على أن ألبس ثوب الزفاف الأبيض وأن نركب العربة المقفلة.وكان فى الشوارع جنود يقضون إجازتهم القصيرة بعيدا عن المعارك؛ ولم يكن منظر الزيجات آنذاك مألوفا. كانوا يحيوننا ويهتفون:"تحيا العروس!" وكنت أقول لهم"شكرا" وكانت تلك كلمة هزيلة للغاية بالنسبة لأولئك الذين كانو يعودون للجحيم وإلى الموت للكثير منهم، أولئك الذين بلغ بهم الكرم إلى حد أنهم كانو يبتسمون لنا."
كتب لها ذات مرة "إعذرى فرنسيتى، اعذرى أفكارى فأنا لا أفكر-وإنما أحبك".
"بدونك أشعرأننى أعمى حقا. أما وأنا معك، فإنى أتوصل إلى الشعور بالأشياء التى تحيط بى". وهى تعلق فى الأخير،هكذا"أمن الممكن ياطه أننى كنت محبوبة على هذا النحو وأننى كنت المقصودة بهذا السيل من الحنان والعاطفة؟.. ذراعى لن تمسك بذراعك مجددا، ويداى تبدوان لى الآن بلا فائدة!"
يعز على دوما هجران طريق ما. كنت أود لو أن الطريق لا تنتهى، وما أشد ما يحزننى ترك قطار أو مغادرة سيارة..هأنذى على نهاية طريق، ذلك الطريق الذى إجتزناه معا وحدنا..لكن الدرب لا يمتد أكثر من ذلك..لابد من وداعه. وإنى لأوجه له نظرة عرفان أخيرة.

معك-2
المقتطفات السابقة والتالية ليست متتابعة فى الكتاب بنفس الترتيب الذى ترد به هنا، لذا لزم التنويه.
وأسيّر العمى فى طريق لم يعرفوها.. فى مسالك لم يدروها أمشيهم. أجعل الظلمة أمامهم نوراً. أشعيا 42-16
إننا لا نحيا لنكون سعداء. عنما قلت لى هذه الكلمات فى عام 1934 أصابنى الذهول، لكننى أدرك الآن ماذا كنت تعنى، وأعرف أنه عندما يكون شأن المرء شأن طه، فإنه لا يعيش ليكون سعيداً: وإنما يعيش لأداء ما طلب منه. لقد كنا على حافة اليأس، وروحت أفكر: لا، إننا لا نحيا لنكون سعداء، ولا حتى لنجعل الآخرين سعداء. لكنى كنت على خطأ. فلقد منحت الفرح، وبذلت ما فى نفسك من الشجاعة والإيمان والأمل. كنت تعرف تماما أنه لا وجود لهذه السعادة على الأرض، وأنك أساسا، بما تمتاز به من زهد النفوس العظيمة، لم تكن تبحث عنها..
الأحد 23 يونيه: سأحاول بعد نصف ساعة أن أستمع إلى إذاعة مونت كارلو. فقد استطعت التقاطها منذ أول أمس، فألقى بى ذلك إلى قربك تماما!. ثم لا أدرى أى جهاز كان يبث موسيقى بالغة الجمال لفرانز ليست، سمفونية فاوست.. أردت هذه الرحلة لأمشى معك، ولأعيش معك..
السبت 28 يونيه: ثمانية أشهر مضت على رحيلك.. السماء سوداء والمطر يهطل. والحق أن "جاردونيه" تشاركنى حزنى بصورة خارقة. على أن مديرة الفندق وضعت إلى جوار صورتك وردة رقيقة وشاحبة.
سأعيد القيام برحلاتنا كلها. سأتوقف حيث توقفنا. فى غمرة أيام الإجازات أعتزل الناس ولا ألفظ إلا ما هو ضرورى من الكلمات. لكم أتمنى أن أكون مجرد عابرة، بالمعنى المطلق لهذه الكلمة. ولو أننى استطعت ذلك لجعلت من نفسى خيالا لا يرى. وفى الصمت، أتجه نحوك بكل قواى. كل ما بقى منى يأتى إليك. وإنما لكى آتى إليك أكتب وأتابع كتابة كل ما يطوف بقلبى.
ذات يوم، يقول لى: اغفرى لى، لابد من أن أقول لك ذلك، فأنا أحبك. وصرخت، وقد أذهلتنى المفاجأة، بفظاظة: ولكنى لا أحبك! كنت الحب بين الرجل والمرأة ولا شك. فقال بحزن: آه، إننى أعرف ذلك جيدا.. ويمضى زمن، ثم يأتى يوم آخر أقول فيه لأهلى إننى أريد الزواج من هذا الشاب.
ربما كان الأمر جنونا، لكنى كنت قد اخترت حياة رائعة. اخترت! من يدرى؟.. وكان لابد من النضال بالطبع بسبب ذلك القرار. وجاءنى أكبر عون من عم لى كنت أكن له إعجابا عظيما؛ وكان هذا العم قساً. فقد حضر ليتعرف بطه، وتنزه معه وحيدا فى حقول البيرينه مدة ساعتين؛ ثم قال لى عند العودة: بوسعك أن تنفذى ما عزمت عليه.. لا تخافى. بصحبة هذا الرجل يستطيع المرء أن يحلق بالحوار ما استطاع إلى ذلك سبيلا. إنه سيتجاوزك باستمرار.
لم نكن أغنياء، لكن طه وجد وسيلة يتمكن بها من إهدائى هدية بمناسبة عيد ميلادى؛ فقد اشترى من شارع بونابرت نسخة من لوحة"عذراء لندن" la vierge de londre لبوتيشللى هذه اللوحة بقيت دوما فى غرفتى. وكانت أجمل لحظاتنا هى الفترات التى نقضيها ونحن نستمع إلى الحفلات الموسيقية التى كانت تقدم بصورة منتظمة كل أحد فى السوربون. لم تكن باهظة التكلفة، إلا أننا كنا نضطر أحيانا للاستغناء عنها، وكنا نعزى أنفسنا بقراءة كتاب جميل.
15 يونيه:
سوزان، أود لو أصف لك ضيقى عندما تركت السفينة، عندما رجعت إلى القاهرة،..فقد دخلت غرفتنا وقبلت الزهرة وغطيت بالقبلات الصورة التى لا أراها.. ومع ذلك فقد فعل أصدقائى كل ما بوسعهم لتسليتى..عندما عدت، واجهت الفراغ، السرير الذى لا يزال على حاله، وسرير الصغيرة المغطى، والمهد الغائب.. يستحيل على القيام بشئ آخر غير التفكير بك. ولا أستطيع أن أمنع نفسى من البكاء كلما دخلت الغرفة؛ فأنا أجدك فى كل مكان دون أن أعثر عليكى. لنقل إننى فى القاهرة فى سبيل حماقة ما (لم يكن يملك ثمن تذكرة السفر!). إنى فى طريقى لتبديد ثلاثة أشهر من عمرى.. هل أعمل؟ ولكن كيف أعمل بدون صوتك الذى يشجعنى وينصحنى، بدون حضورك الذى يقوينى؟ ولمن أستطيع أن أبوح بما فى نفسى بحرية؟ ستقولين لى: عليك أن تكتب لى، لكنك تعلمين جيدا أن الكتابة غير التحدث، وأن قراءة رسالة هى ليست الاستماع إلى صوت، ثم إنك تعلمين جيدا أننى كثيرا ما لا أقول شيئا وإنما أتناول يدك وأضع رأسى على كتفك.. ثلاثة أشهر..ثلاثة أشهر.. فترة رهيبة. لقد استيقظت على ظلمة لا تطاق؛ وكان لابد لى من أن أكتب لك لكى تتبدد هذه الظلمة. أترين، كيف أنك ضيائى حاضرة كنت أم غائبة؟

قبلى الطفلين وحديثهما عنى فذلك يسعدنى. وعندما تروق لك البيرينيه أو يروق لك أى مشهد آخر ففكرى بى بهدوء وجذل. فكرى أننى إلى جانبك وأننى أرى بعينيك وأننى أعانى كل ما تعانيه.
19 يونيه:
ما أغرب الأمر. كنت أظن يا سيدتى أننى سأتعزى فى غيابك بإنتاج غزير؛ ولكنى لا أنتج شيئا. أوحى لى يا ملهمتى، قولى إنه أن أكتب الكتاب الشهير، وأن أتم ترجمتى.. وأن أكتب المقالات. كل ذلك ضرورى. لكن بدون تشجيعك لن أحقق منه شيئا.. فأنت تمنحينى كل شئ..لقد رحلت فلحق بك ذكائى، كل قلبى، كل نفسى.. ماذا أقول؟ أو لم تحملى كل ذلك معك؟
تغمرنى ظلمة بغيضة..آه! ما أقسى أن يكون المرء وحيدا، بعيدا عن حياته. إنى ضائع.. ألم أقل لك إننى لا أساوى شيئا بدونك. أولئك الذين يتحابون حقا يعرفون أن الحب حاجة إلى حضور مستمر، حتى وإن لم يكن هذا الحضور ماديا...
ويتابع (طه) فى يوليو 1922:
كان أفلاطون يفكر أننا إذ نتحاب فإننا لا نفعل سوى أن نعيد صنع ما أفسده عارض ما. عندما تنفصل نفسان عن بعضيهما، تبحث كل منهما عن الأخرى، وعندما يتواجدان ويتعارفان، فإنهما لا يعودان كائنين وإنما كائن واحد. إننى أؤمن بذلك تماما.. أتعلمين أننى أصبح صوفيا!. لو كنت شاعرا لألفت الأناشيد ولغنيتها بنشوة، لا يهم؛ فقلبى يؤلفها ويغنيها؛ ونفسى ترق وقلبى يلين؛ إننى لم أعد أتعرف على نفسى أبدا.. فلدى شخصيتان؛ واحدة للعالم كله، وأخرى لك، لى لنا؛ ولكن أترين يا سوزان، أنا لا أتحدث إلا عنى، إننى أنانى.. وكل الصوفيين أنانييون.
أحبك وأنتظرك ولا أحيا إلا على هذا الإنتظار..
أنا قليل الإفضاء بمشاعرى، بل إننى صموت، وإننى على وعى بذلك تماما، لكن ما أكثر ما حدثتك منذ رحيلك عن أشياء لا تطيقين سماعها! لم أكن أعتقد على الإطلاق بقدرتى على مثل هذا الحب. وستبقى دوما فى أعماق نفوسنا زاوية كانت وستبقى دوما وحشية، ولن يمكن تقاسمها إلا بين كائنين، كائنين فقط، أو أنها لن تقتسم على الإطلاق. هذه الزاوية الوحشية المتوحدة هى أفضل ما فينا.
ليس هناك من بين هذه الرسائل التسعين رسالة واحدة لم تكن اعترافا أو عطاء. اقرؤها وأقرأ تلك التى وصلتنى منه بعد ذلك. خمسون عاما مضت ولا أكاد أصدق ذلك إلا بصعوبة. أمن الممكن يا طه أننى كنت محبوبة على هذا النحو وأننى كنت المقصودة بهذا السيل من الحنان والعاطفة؟.. هذا القدر من الحب الذى كان على أن أحمله وحدى، وحدى، عبئا رائعا، ما أكثر ما خفت ألا أتمكن من القيام بمتطلباته بجدارة! من أين جئت أنت إذن، أنت الأقرب إلى نفسى، من أين جئت؟ وهل سيسمح لى الله أن ألقاك حيث أنت؟. للمرة الأولى، والوحيدة، لم نكن معا فى ذكرى زواجنا، كانت رسالتك يومها مفعمة جلالا: أبى حاجة للقول أنى أحبك؟ إنى لأقولها لك مع ذلك وإنه لعهد لك منى جديد. ولما كنا متحابين، فإننا سوف نسير من جديد، أقوياء بهذا الحب نحو المستقبل الذى ربما سيشبه الماضى، أو لعله سيكون أفضل منه أو ربما سيكون أسوأ منه؛ ولكن ما همنا؟ سوزان، لنتابع المسير، أعطنى يدك.
"أعطنى يدك" لقد طلبها منى أيضا فى الليلة الأخيرة، يدى، ولكنى لم أذهب معه

 ......................... 

 

قال طه حسين لزوجته قبل وفاته
"بدونكِ أشعرُ أنني أعمى حقًّا. أمّا وأنا معكْ، فإني أتوصّلُ إلى الشعور بالأشياء التي تحيطُ بي."

وبعد موته .. كتبت عنه وله وعن ما كان بينهما في كتابها المدهش " معك " ،وردت على قوله .. قائلة


" ذراعي لن تمسك بذراعك ابدا، ويداي تبدوان لي بلا فائدة بشكل محزن، فأغرق في اليأس، أريد عبر عيني المخضبتين بالدموع، حيث يقاس مدى الحب، وأمام الهاوية المظلمة، حيث يتأرجح كل شيء، أريد أن أرى تحت جفنيك اللذين بقيا محلقين، ابتسامتك المتحفظة، ابتسامتك المبهمة، الباسلة، أريد أن أرى من جديد ابتسامتك الرائعة..»

...........................


قال لها :


"ابقي،لا تذهبي ، سواء خرجت او لم أخرج، أحملكِ فيّ ، أحبكِ . ابقي،ابقي ، أحبكِ . لن أقول لكِ وداعاً ، فأنا أملككِ،وسأملكك دوماً ، ابقي ، ابقي  يا حبّي"